"معقول؟".. منشور كتبته بعلامة استفهام، حينما شاركت بلعبة التنبؤ المستقبلية اليومية على "فيسبوك"، وكان عنوانها "كيف ستنتهي عام 2021"، فكانت النتيجة "السفر"، مرفقًا بصورةٍ ليد تحمل جواز سفرٍ بين الجبال الخضراء، وصورة أخرى لشاب يرفع علم فلسطين في ممر بالبلدة القديمة بالقدس أمام قوات الاحتلال التي تحاول منعه الدخول للأقصى، كانت تضعها غلافًا لصفحتها.
لم تكن اللعبة بعيدة عما حدث واقعًا، فإسراء التي ذهبت "للصلاة بالمسجد الأقصى" وسارت بممرات البلدة القديمة، انهالت عليها رصاصات جنود الاحتلال الإسرائيلي، لتكتب بدمائها حكاية إنسانة أقبلت على الحياة، تعلمت وتفوقت وهي طالبة جامعية تدرس "علوما مالية ومصرفية"، منعت الدخول للأقصى، فهذه الكاتبة خطت حروفها كل شيء إلا حكاية سفرها.
خروج بلا عودة
في التاسع والعشرين من سبتمبر/ أيلول 2021، خرجت إسراء الساعة الرابعة عصرًا من منزلها ببلدة قباطية في جنين، وقبل خروجها استقبلت أبناءها بعد عودتهم من المدارس ورياض الأطفال، وتناولت معهم طعام الغداء، ثم استقبلت طالبة وأعطتها درسًا خصوصيًا، ثم خرجت من المنزل وتأخرت عن العودة إلى المنزل.
بعد تأخرها ذهب أطفالها لبيت خالهم فادي خزيمية المجاور لمنزلهم، يسألون عن أمهم، استمر البحث طوال الليل، وفي الصباح توقف وهو يتابع الأخبار عند صورةٍ لفتاة ممددة على الأرض بالقدس استشهدت فجر الخميس وألقى على روحها السلام.
مرر يده على شاشة هاتفه منتقلا لصورة أخرى، قبل أن تعود به ذاكرته للون القميص الذي تكسر الخطوط السوداء لونه الأبيض، وكانت شقيقته دائما ترتديه مثله، ليعود للصورة التي ترحم على صاحبتها قبل قليل، يدقق بهيئة الجسد، يحاول التقريب والتأكد من أنها شقيقته، فكان القميص علامة كبيرة جعلته يعرف باستشهاد شقيقته.
قطع رنين الهاتف محاولات فادي التعرف على صاحبة الصورة، ينصت لصوت المتصل، وكان ضابط مخابرات الاحتلال يتحدث بتعجرف: "احنا حيدنا أختك إسراء"، لم يكن سهلاً على شقيق إسراء الذي تجاوره بالمنزل، ويزوران بعضهما بعضًا يوميًا، الإنصات للخبر، غاب في صمته قبل أن يسأله الضابط "بدك اشي؟".. صوته المسكون بالألم بالكاد استطاع النطق: "بدنا الجثة"، وهو الذي كان بين لحظات يبحث عنها على أمل أن يعود بها لأطفالها.. والآن لا يعرف بأي وجهٍ سيعود إليهم!".
احتار ماذا سيقول للابنة الكبرى تولين (11 عامًا)، وماذا سيقول لعامر (10 سنوات) أكبر أبنائها من الذكور، وكيف سيقتنع ورد ابن الخمس سنوات وتيم الذي لم يتجاوز العامين أن أمه رحلت، وهو الذي جاء إلى الدنيا حديثًا وسيكمل عمره بلا أم.
في بيت العزاء، يمسك عامر الذي لم يرَ جثمان أمه بعد -بسبب احتجازه من قبل قوات الاحتلال- دلوا مليئا بزجاجات المياه، يوزعها على المعزين، يمر بين ممرات الكراسي البلاستيكية، يروي عشطهم، كانت ملامحه باهتة تقيم مراسم وداعٍ صامتة؛ وهو يحتاج لمن يروي عطش شوقه لأمه.
لم تكن إسراء؟
ليس غريبًا على تيم وورد اللذين ينتظران عودة والدتهما، أن يلاحقا امرأة ترتدي قميصًا يشبه قميص أمهما ويجتازا الطريق للحاق بها، فيصلا إلى المرأة ليجدا اختلاف الملامح والصوت عن أمهما، وليس غريبًا على تيم الذي يلهو بهاتف خاله "إلى حين عودة أمه"، فيعثر الطفل على صورة أمه، فيسألها ببراءة "وينك يما.. تعالي".
"لا تزال الأسرة في حالة صدمة كبيرة، نحاول تهوين الوجع على الأطفال، لكونهم متعلقين بي كثيرًا في حياة والدتهم، وكانوا دائمًا يأتون لبيتي، والآن اصطحبهم للتنزه علهم ينسون ما جرى"، يقول فادي بألم.
تداهم الدموع صوته المخنوق وهو يطيل التوقف عند آخر المواقف التي جمعته بإسراء: "أصيبت بفيروس كورونا قبل عدة أيام من استشهادها، وكنت أعتني بها ونقدم لها الأدوية بالطب العربي كي تعالج نفسها، حتى شفيت وجاءت وزارتني، ما زلت أذكر فرحتها بنجاح ابني بالثانوية العامة، أذكر كيف كانت سعيدة، وهي تنظر إلى مستقبل أبنائها تنتظر أن تعيش نفس الفرحة".
"تركت لنا الوجع"
في بيت العزاء جلس عمها (والد زوجها) وهو يحمل بين يديه حفيديه تيم وورد، في حين يقف بجانبه تولين وعامر، يسأله أحد الصحفيين: "ماذا تركت إسراء خلفها؟"، فرد العم بعينيه المحمرتين وقلبه المقهور: "تركت لنا الوجع".. قطعت دمعة حارة مسير صوته: "لم يستوعب الأولاد الخبر، ابنها الصغير لاحق في الصباح سيدة وركض بين السيارات يعتقد أنها أمه، يوم خروجها الأخير عاد أولادها قبل العصر من المدرسة، وأعدت لهم الطعام، ثم أعطت درسا خصوصيا ورحلت.. لا حول ولا قوة إلا بالله، صبر جميل والله المستعان، نريد جثمانها لدفنها، لكن الحزن لا يدفن".
تتجول داخل صفحة إسراء في العالم الأزرق، فتكتشف كمية الحب الكبيرة التي تركته لدى صديقاتها اللواتي علقن مؤخرًا على منشور كتبته في يوليو/ تموز الماضي: "في انتظار ليالي ديسمبر الباردة فقد اشتقنا إليها".
إحدى صديقاتها طلبت منها التريث، كانت إسراء بمنتهى السعادة وهي تتفاعل مع ردود صديقاتها وكأنها بانتظار ضيف عزيز غائب، أعادت إحدى صديقاتها نبش المنشور فردت: "شو نعمل احنا اشتقنالك كتير". تركت صديقةٌ أخرى ردًا آخرًا: "ربنا يصبرنا على فراقك".
لم تكن إسراء تشارك صديقاتها كتاباتها فقط بل نجاحاتها أيضًا، حيث شاركت صديقاتها فرحتها بالحصول على العلامة الكاملة في مقرر "الحركة الأسيرة"، وأرفقت الصورة بنص كتبت فيه: "الإرادة الصادقة للإنسان، تشبه قوّة خفيّة تسير خلف ظهره، وتدفعه دفعاً للأمام على طريق النجاح".
"ويحدث أن نطلق رصاصة الرحمة على قلوبنا، ونقول: وداعًا"، كانت تلك الجملة من بين ما كتبته على حسابها الشخصي على موقع فيسبوك، لكن ما حدث أن رصاصة قاتلة اخترقت قلبها بالفعل وأزهقت روحها.
هي الكاتبة التي قالت: "كفاك يا قلب لا تدق فقد أوجعتني.. لمن تدق الآن؟ أما زلت لا تعي.. أتحاربني يا قلب أم أنت معي؟ تضغط ويعلو نبضك في دمي.. ألم تمل بعد أو تهتدي؟ اهدأ يا قلب ولا تستعجل مصرعي (...) كفى يا قلب واصمت فقد أوجعتني"، رحلت إسراء وهدأت نبضات قلبها الذي صمت في سُبات طويل.