دأب الإعلام العربي على وصف عمليات "زيارة" اليهود لباحات المسجد الأقصى بقوله إنها "اقتحام" على اعتبار أن هذه الزيارات غير مسموح بها، وأنها تتم رغم أنف حراسه، وهذا -شكلًا- صحيح، لكنّ "الحراس" الحقيقيين للأقصى اليوم ليسوا موظفي الأوقاف الإسلامية التابعين لوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في الأردن، فهؤلاء حراس بلا شوكة، فلا سلاح لديهم سوى أجسادهم، وهم يخضعون لتعليمات سلطة الاحتلال، التي هي "الحارس" الفعلي ليس للأقصى فقط بل لكل الأراضي المحتلة في فلسطين، وبهذا المعنى تصبح زيارة المسلم لمسجده الأقصى هي فعلا عملية الاقتحام، حيث يتعين عليه اجتياز الحواجز الثابتة والمتحركة التي يقيمها الاحتلال، هذا بالنسبة للمقدسيين تحديدا وأهالي فلسطين المحتلة عام 1948، أما بقية الفلسطينيين ومعهم المليار ونصف المليار مسلم فممنوعون أصلا من زيارة المسجد، ولا يستطيع أهالي الضفة الغربية الوصول إلى المسجد للصلاة إلا بعد "اقتحامهم" لكل الحواجز والسواتر والحدود التي يضعها الاحتلال وعبر طرق التفافية ووديان وجبال وسهول!
أغلب الظن أن أول من أطلق صفة الاقتحام على اليهودي الذي يصل المسجد الأقصى لم يخطر بباله هذا المعنى، لكن الأمر راق للإعلام الرسمي فتبنى المصطلح، في سياق مهمته التاريخية في صناعة الوهم وبيعه للجمهور، وتلك حكاية يطول شرحها، ولكن بوسع أي راصد إدارة محرك محطة تلفزة عربية رسمية لتنهال عليه كثبان الوهم من أخبار وتحليلات ورؤى لنخب مدجنة مصنوعة في أروقة المؤسسات الرسمية، ومهمتها رفع عقيرتها بتسويق أكاذيب النظام وترهاته، وتمجيد الزعيم والتسبيح بحمد منجزاته وإبداعاته، وفي النهاية أنت أيها العربي تخضع لهجمة تسونامية من الأكاذيب والأخبار الملفقة، التي لا تحتوي من الصدق إلا ما يحويه الخروب من السكر، وهو درهم حلاوة في قنطار من الخشب، ومن ضمن هذا الوهم تأتي قصة "الاقتحام"..
الجانب الأكثر خطورة في قصة "الاقتحام" هذه ليس العبث بالمصطلح ولا التضليل فيه، بل ما يمثله المشهد الذي أصبح منتظما، خاصة فيما تسمى "الأعياد اليهودية" فالاقتحام يمكن أن يتم مرة أو اثنتين أو حتى مائة، أما حين يصبح رتيبا ومرتبطا بمواسم دينية، فهو ليس اقتحاما بل زحاما واقتساما، وهذا ما لا يريد الخطاب الرسمي العربي أن يعترف به، لأنه يعلم أن هذا الأمر يمس عصبا حيا لم يمت بعد في الوجدان الجمعي العربي والمسلم، وهو لا يريد "وجع رأس" فهو مشغول بتطبيع علاقاته مع الاحتلال وتسويقه، وعقد الاتفاقات معه وشراء الغاز منه، وتصعيد تنسيقه الأمني السري والعلني معه، علما بأن قصة التنسيق هذه هي من المصطلحات المضللة أيضا، فلا يوجد تنسيق بين سيد وعبد، بين يد عليا ويد سفلى، بل ثمة "استخدام" بيد من هو فوق لمن هو تحت، ولا ينطبق هذا الأمر على سلطة رام الله فحسب، بل إن قصة التنسيق أو الاستخدام تنسحب على كثير من أنظمة العرب الضالعة في علاقات "عميقة جدا" مع الكيان، ليس حديثا بل منذ زمن بعيد، وكل ما في الأمر أن ما كان سريا في الماضي غدا علنيا، بعد أن "طق عرق الحياء" لدى من كان يخشى ثورة الشعوب، بعد أن انشغلت هذه الشعوب بمطاردة رغيف الخبز.
إذا هو زحام واقتسام، زحام على موطئ قدم توطئة لبناء الهيكل، واقتسام زماني ومكاني بالضبط كما حصل مع الحرم الإبراهيمي في الخليل، ولكن دأب الاحتلال على تقسيم "هجومه" على مراحل، ورصد ردود الفعل، حتى إذا أحس بالأمان، وتيقن من موت أو نوم أحاسيس القوم، تحرك للخطوة التالية، أو أجلها حتى "تهدأ النفوس!" وما موقفه من عملية إخلاء أهالي حي الشيخ جراح ببعيدة، وكذا هو الأمر بحكم محكمته باعتبار "الصلاة الصامتة" لليهود في باحات الأقصى أمرا "قانونيا" ومباحا، حتى إذا أحس ببعض ردود الفعل الغاضبة أشاع أن المحكمة ألغت قرارها، وهذا ليس صحيحا، لأن الأمر كله مرتب وفق سياسة الخطوة خطوة، والقضم والهضم!
ما نحتاج إليه بعد كل هذا يقظة شعبية وانتباه لمن يبيعنا الوهم، ويسوق علينا الأكاذيب، لمزيد من التخدير والنوم في عسل الانتظار، ما نحتاجه انتفاضة شعبية عارمة، ليس في فلسطين فحسب، بل في كل بقعة يضام الناس فيها وتؤكل حقوقهم، ثم تأتي أبواق النخب المستأجرة لتسويغ المظالم وتزيينها باعتبارها إنجازات!