سؤال يتبادر إلى أذهان الكثيرين، ومَرَدّه أن الناظر إلى القضية الفلسطينية يرى في ظاهرها شرخاً عميقاً من الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة وغزة، وترهّل القيادة الفلسطينية الرسمية التي تمثّل الفلسطينيين في المحافل الدولية، وفشلها في انتزاع حق تقرير المصير وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وعجزها عن تحقيق طموحات وأحلام الشعب الفلسطيني، في ظل تراجع الدعم الدولي للقضية الفلسطينية.
وفي المقابل يتواصل الدعم العسكري والمالي الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية لكيان الاحتلال، في ظل تصاعد الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية، واستمرار تهويد مدينة القدس المحتلة، وتشديد حصار غزة، وهرولة بعض النُظُم العربية باتجاه التطبيع مع الاحتلال، وعقدها العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية التي تطيل عُمُر كيانه الهَشّ فوق أرض فلسطين.
لا نستطيع نفي ما ذُكر من شواهد تدل على ضعف الحالة الفلسطينية الراهنة في مواجهة الاحتلال، إلا أن الإجابة عن مدى إمكانية تحرير فلسطين تتطلب نظرة أكثر عُمقاً في فهم سرّ الصمود الفلسطيني في مواجهة الاحتلال لأكثر من سبعة عقود متتالية على الرغم من الدعم الدولي اللامحدود لكيان الاحتلال، فالشعب الفلسطيني يتوارث جيلاً بعد جيل مقاومة الاحتلال الصهيوني بكل الوسائل المتاحة، وفي سبيل الدفاع عن أرض فلسطين قدّم -وما زال- عشرات الألوف من الشهداء، ومئات الآلاف من الجرحى، وأكثر من مليون معتقل في سجون الاحتلال دون أن تنكسر له عزيمة، أو يُهزم في مواجهة الاحتلال.
العزيمة الفلسطينية المتّقدة نجحت في إشعال ثورات فلسطينية متعاقبة فاجأت الاحتلال وداعميه في كل مرة، بدءًا من ثورات الفلسطينيين إبّان الاحتلال البريطاني، مروراً بانتفاضة الحجارة عام 1987م، وانتفاضة الأقصى عام 2000م، وانتفاضة القدس نهاية 2015م، وما تلاها من هبّات شعبية، ومواجهات عسكرية متبادلة ما زلنا نعيش آثارها الملموسة حتى يومنا هذا.
تلك العزيمة دفعت الفلسطينيين للاعتماد على أنفسهم، وتطوير قدراتهم العسكرية والأمنية عاماً بعد آخر، حتى أضحت قدرات المقاومة الفلسطينية ومنظومتها الصاروخية تُشكّل تهديداً للمشروع الصهيوني الذي اتضح أنه أوهن من بيت العنكبوت في معركة سيف القدس الأخيرة بين المقاومة والاحتلال.
نظرة ثاقبة من الداخل لكيان الاحتلال تشير بوضوح إلى تراجع المشروع الصهيوني بعد تمدده لعقود مضت، فالانسحاب العسكري من قطاع غزة وجنوب لبنان خلال العقدين الأخيرين يؤكد انكفاء كيان الاحتلال على نفسه، كما أن التفكك السياسي، والتصارع الحزبي داخل الكيان وصل إلى ذروته في السنوات الأخيرة، مع افتقاد المجتمع الصهيوني إلى قائد يوازي في قدراته الفكرية والعملية النخب الصهيونية التي أسست كيان الاحتلال قبل سبعين عاماً.
كما يدرك الاحتلال أن توقيعه اتفاقيات التطبيع مع بعض النظم العربية الفاقدة للاحتضان الشعبي لا يتعدى كونه علاقات سياسية باهتة لا تعبر بحال من الأحوال عن الشارع العربي الذي يحتضن القضية الفلسطينية وينبذ كيان الاحتلال، وليس أدل على ذلك من تمنُّع قطاعات واسعة من أبناء الشعب المغربي الشقيق عن تأجير أو بيع أي عقار ليكون مقراً لسفارة الاحتلال في الرباط على الرغم من هرولة النظام المغربي الرسمي لتوقيع اتفاقية تطبيع مع الكيان.
من جهة أخرى فإن الانقسام الفلسطيني بات يعبر عن حالة تبايُن مطلوبة بين الفلسطينيين، فالفلسطيني الجديد الذي دربه الجنرال الأمريكي كيث دايتون في الضفة الغربية، وغرس في نفسه عقيدة أمنية فاسدة، وربط مصيره ببقاء الاحتلال بات معزولاً عن الشارع الفلسطيني الذي تؤكد جميع استطلاعات الرأي إيمانه بالمقاومة ورفضه عار التنسيق الأمني مع الاحتلال، ومطالبته رئيس السلطة الفلسطينية الذي يرمز إلى الفلسطيني الجديد بالاستقالة والرحيل.
إن صمود الشعب الفلسطيني وإيمانه بحقه في الحرية والاستقلال، واستعداده لبذل كل نفيس في سبيل الدفاع عن القدس والمقدسات، وإطلاقه ثورات وانتفاضات متعاقبة في مواجهة الاحتلال، وإصراره على مراكمة القوة، ونجاحه في بناء منظومة عسكرية قادرة على مواجهة الاحتلال في غزة، إنما هي بشريات جلية بإمكانية هزيمة الاحتلال ودحره عن الأرض الفلسطينية، وما مشهد إمطار المدن المحتلة برشقات صاروخية متتالية في معركة سيف القدس إلا شاهد على انكفاء المشروع الصهيوني وحالة الانهزام النفسي التي أصابت قادة وجنود جيش الاحتلال في مقتل.