ناقشنا في مقالات سابقة عشرة أوهام، ونناقش في هذا المقال وهمًا آخر:
الوهم الحادي عشر: الشرعية الدولية:
هذا وهمٌ يستند إليه دعاة التسوية السلمية مع الكيان الصهيوني، ويَعدُّونه المدخل الأنسب لدفع الصهاينة للانسحاب من فلسطين المحتلة 1967 (أي الضفة الغربية وقطاع غزة)، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة عليها. بل وجعلت قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية (قيادة فتح) من الاعتراف بهذه "الشرعية" شرطاً على حماس والجهاد وقوى المقاومة لدخول منظمة التحرير، كما جعلته مؤخراً شرطاً لاستئناف المصالحة الفلسطينية، وكأن تلك "الشرعية" وقراراتها تمثل حلاً سحرياً لأزمة المشروع الوطني الفلسطيني، في حين أنه في الحقيقة فإن الجري وراء سراب هذه "الشرعية" هو أحد أسباب أزمة هذا المشروع.
والمقصود بـ"الشرعية الدولية" مجموعة المبادئ والقوانين التي تَحكُم وتُوجِّه العلاقات الدولية، وخصوصاً من خلال الأمم المتحدة وهيئاتها، أو من خلال الأعراف والمعاهدات والاتفاقات الدولية.
ويكمن جوهر هذا الوهم وخطورته في أن ما يعرف بـ"الشرعية الدولية"، عندما يتعلق الأمر بفلسطين، وبعد تجربة أكثر من سبعين عاماً، فإنها لا تملك القدرة ولا الإرادة ولا حتى الرغبة الحقيقية لإنفاذ قراراتها، وإلزام الكيان الصهيوني بها، خصوصاً عندما لا تتوافق هذه القرارات مع المشروع الصهيوني وبرنامجه ومزاجه. وبالتالي، فإن استمرار المراهنة عليها يُعدُّ ضرباً من الوهم، وخداعاً للذات، وخداعاً لجماهير الشعب الفلسطيني وكل من تعنيه قضية فلسطين.
و"الشرعية الدولية" الحالية هي استمرار للمنظومة التي تشكلت إثر الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وصنعتها الدول المنتصرة، وسعت لإكساب نتائج الحرب والواقع الذي أنشأته غطاء شرعياً. وبالتالي فقد عبّرت عن حالة التلازم بين "القوة" وبين "الشرعية"، وعبّرت عن سعي القوي لإكساب قوته صبغة قانونية وأخلاقية. واستجابت عملياً لفكرة أن صاحب القوة هو دائماً على حق!! (might is right).
وتظهر إحدى تجليات المشكلة في أن إنفاذ القرارات الدولية مرتهن بقرارات "مجلس الأمن الدولي"، وتحديداً بناء على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ومجلس الأمن نفسه مرتهن (منذ سنة 1945 وحتى الآن) بحق النقض (الفيتو) للأعضاء الخمسة الدائمين في المجلس (أمريكا، روسيا، بريطانيا، فرنسا، الصين)، ولا يمكن إصدار أي قرار إذا عارضه عضو واحد من هؤلاء. فإذا علمنا مدى عمق العلاقة الاستراتيجية للغرب بالمشروع الصهيوني، ومدى قوة اللوبي اليهودي الصهيوني الإسرائيلي هناك.. سندرك حجم الوهم الذي نعلّق آمالنا عليه.
ويشير رصيد التجربة إلى أن هذه "الشرعية" تمّ توظيفها بحسب مصالح الدول الكبرى، وأنها أخفقت في تحقيق الحد الأدنى من العدل وإحقاق الحقوق، عندما تتعارض مع مصالحها أو مصالح أحدها، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بعالمنا العربي والإسلامي، وبالذات فلسطين. وينطبق ذلك أيضا على قضية كشمير، ومسلمي بورما (ميانمار)، ومسلمي الصين (بالتحديد الأويغور)، ومسلمي القوقاز (الشيشان..)، والبوسنة، والاحتلال الأمريكي وأفغانستان والعراق، والعقوبات الانتقائية على ليبيا والسودان وإيران، وطريقة التعامل مع دول "الربيع العربي"، من حيث توفير الغطاء لقمع شعوبها أو السكوت عن التدخلات الإقليمية والدولية لدعم الديكتاتوريات أو المسارات المخالفة لإرادة الشعوب.
كما يشير رصيد التجربة إلى أن الولايات المتحدة عطلت الأغلبية الساحقة (إن لم يكن كلها) من القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن التي تُدين الكيان الإسرائيلي، أو تُلزمه بأي إجراءات على الأرض لصالح الشعب الفلسطيني؛ وأنها استخدمت الفيتو نحو 43 مرة فيما يتعلق بفلسطين، من أصل 85 مرة استخدمته فيها طوال تاريخ الأمم المتحدة، فيما يتعلق بكل دول العالم وقضاياها. يُضاف إلى ذلك أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت نحو 550 قراراً لصالح فلسطين، لم ينفذ منها قرار واحد، بما في ذلك قرار حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى الأرض المحتلة التي أخرجوا منها في حرب سنة 1948، والذي تكرر إصداره بأشكال مختلفة وعلى مدى أكثر من سبعين عاماً نحو 120 مرة.
إنه لأمر مستغرب جدًّا، بل إنه كبيرة من كبائر العمل الوطني، أن تأتي جهة فلسطينية متنفذة مهيمنة على الحالة "الرسمية" الفلسطينية، لتشترط على فصائل المقاومة التزام ما يسمى "الشرعية" الدولية مدخلًا للمصالحة أو لترتيب البيت الفلسطيني.. ولتسهم في محاولة تطويع الإرادة الفلسطينية، ولتدخل فصائل المقاومة في "المستنقع" الذي ورطت نفسها وشعبها فيه، ولتتابع بيع الوهم في الساحة الفلسطينية.
ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا أن العمل الدولي غير مطلوب، فالعمل في البيئة الدولية وعلى منصات الأمم المتحدة ومؤسساتها ليس مطلوباً فقط بل هو واجب. كما أن متابعة التواصل مع الأنظمة الدولية ومع شعوب العالم، وتعريف العالم بقضية فلسطين هو أحد ضرورات العمل السياسي، لمحاصرة المشروع الصهيوني وقطع "حبل الناس" عنه. ولكنه يبقى عاملاً مساعداً في إطار مشروع التحرير الأوسع وضمن عملية مراكمة الإنجاز، وهو يظلّ ذا ثقل نوعي محدود (قياساً بالمقاومة مثلاً) لا يمكن الرهان عليه كأساس لتغيير موازين القوى أو لاستحصال الحقوق.