في الفقد لا يوجد أبلغ من لغة العيون؛ عيناها تروي وجع القلب، تائهة بين قضبان الحزن قابعة خلف جدران اليأس، وكأنها تأخذ غفوة في حضن الألم، تتأمل فرحة زفافها التي لم تكتمل، وشريك الروح الذي أخذ القلب ورحل وهي التي أوقدت بالأمس شمعة ميلاده الثانية والعشرين.
ألقت الفتاة "دنيا خلف" بنظراتها ثقيلة نحو خطيبها أسامة صبح محمولاً على أكتاف الرجال، تتكئ على قوافي الصمت تكتفي له بإشارة الوداع التي دائمًا كانت إشارة ترحيبٍ بين منزليهما القريبين من بعضهما في بلدة "برقين" جنوب جنين بالضفة الغربية.
بينما كان القلب يعلنها على الملأ "أنتَ حبيب روحي"، كان هو أول الواصلين إلى منشورها على صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، ليسجل حضوره في أبهى ردٍ "وأنتِ روح الروح".
كانت دنيا في أوج لحظات الفرح، تحتفل بيوم ميلاد أسامة بالرابع والعشرين من سبتمبر/ أيلول 2021 (قبل استشهاده بيوم) فكتبت على الملأ كذلك تريد أن يعلم الجميع مقدار حبها له تختار له مسكنًا دائمًا له: "كل عام وأنت حبيبي.. كل عام وأنتَ بالقلب مسكنك"، كلمات قرأها خطيبها بعين قلبه: "يا حبيبة روحي أنتِ.. الله لا يحرمني منك".
حلَّ المساء، ورجع أسامة لبيته من النادي الرياضي (كمال أجسام)، تتسابق خطواته نحو الهاتف يريد الاتصال بدنيا؛ طرق الباب المغلق على عجل، ثم فتح له أحدهم من الداخل، ليجد نفسه وسط بقعة ظلام، قبل أن تضاء الأنوار فجأة.
التفت للخلف بعدما ارتسمت ضحكة أضاءت وجهه كله، ليجد دنيا صاحبة هذا الحفل تمسك قالب جاتوه، وغنى له الجميع أغنية عيد الميلاد، مفاجأة جميلة وعد خطيبته أن يردها لها: "إن شاء الله بأحتفل بيوم ميلادك، ببيتنا.. وأفرحك زي ما فرحتيني".
اللحظات الأخيرة
على الطرف الآخر من الهاتف، اختنق صوتها بالدموع.. فسكتت هنيهة ربما كانت كافية لترسم صورة آخر اللحظات التي جمعتهما معًا، بينما ينفث الحزن جمراته على صوتها، قالت: "سرّ أسامة بمفاجأة عيد ميلاده، وسهرنا بعدها عندما عدت للبيت، أحدثه عبر الهاتف، تفاجأت بكلماته وكأنه يودعني: "أنت أغلى شيء بحياتي.. أكتر حدا بخاف عليه"، ثم أخذني بالحديث لذكرياتنا الأولى منذ بداية خطوبتنا قبل عام وثمانية أشهرٍ، وأرسل لي صورًا التقطناها معًا، نراجع المواقف والأحداث ثم سرقنا الوقت والحديث وغفونا قبل الفجر ثم استيقظ وصلى الفجر".
السادسة صباحًا، الشمس تسلمت مناوبتها.. مكالمة مرئية وردت دنيا من خطيبها، كانت أحبالها الصوتية الخافتة لا تقوى على حمل بقية التفاصيل: "كان يتناول الفطور، لم يتكلم كثيرًا.. ينظر إلي، ويبتسم، فبادلته الابتسامة نفسها (...) لمحت أنه قريب من النافذة التي تعلو بيته، ومن الخلف جبال، فخشيت من وجود قناصة إسرائيليين بالمكان، فطلبت منه الابتعاد عن النافذة، طلبي أضحكه: "بتخافي عليّ!؟ ثم أنهى المكالمة ووعدني أن يعود إليّ، وبعدها سمعنا أصوات إطلاق نار واقتحام لجنود الاحتلال، لكون بيتي في قرية أسامة نفسها".
تعيش المشهد مرةً أخرى: "بدأت أشعر بانقباض قلبي، لأنه لم يتصل بي، فاتصلت بوالده وكان على علم بإصابته، لكنه هون الأمر: "تخافيش أكيد طلق مطاط برجله!"، تلك الكلمات بردت مخاوفي وأبعدت أشباح الموت عن تفكيري".
تنصت دنيا لصوت قادم من السماعة الخارجية لهاتف أمها بعد اتصال مفاجئ يسأل: "دنيا جنبك؟"، بدا صوت المتصل وكأنه يرتجف وفي ملامح أمها تجمع الخوف: "في شي؟ اقلقتني!"، فترك الخبر يصل محمولا مع الهواء عبر السماعة الخارجية لدنيا دون أن يدري دفعة واحدة: "أسامة استشهد"، في لحظة توقفت فيها الحياة أمامها، وانطفأت أنوار الفرح، ونزل الخبر كصاعقة ضربت قلبها وأحدثته زلزالا هشم جدران قلبها، وفكك تماسكه.
حياة وردية
كانا يرسمان مستقبلا لحياة "وردية" تحت سقف بيت جميل، قبل خمسة أيام من استشهاد أسامة، ذهبا معًا وتوزعا على كل زاوية وركن في المنزل، ينظفان الزجاج ويلمعانه، يقشطان أرضية المنزل، الذي سيجمع روحيهما تحت سقفه، يستعدان لمراسم الزفاف بعد شهر "يلا هيك ما ضلش إلا العرس".. كلمات سبقتها ضحكة طارت من فم أسامة بعد انتهاء التنظيف ووقفا يتأملان بالبيت الذي أصبح "كحبة اللؤلؤ".
يرخي الحزن أحباله على صوت دنيا المثقل بوجع الفراق وحجم القهر الذي تعيشه: "حتى الآن مش مصدقة أنه أسامة رحل (...) طوال الوقت كنا نتحدث معًا، ولأن بيتي قريب من بيته، كان يوميًا يأتي إلي، ونخرج" ضحكة مبتورة أفلتت منها: "حتى على الدكان كان يأخدني معه".
تحاول أمه الاستعانة بصبر يحفظ تماسكها واحتراق وجع يضرم نارًا مستعرةً بداخلها "الحمد لله رب العالمين على كل حال، بنفس ليلة استشهاده حددنا موعد زفافه، لكن رب العالمين اختاره عريسا عنده، سألته عن مقاس بدلته، فكانت إجابته ابتسامةً، ولم أتوقع أن بدلته بيضاء".
رأته أمه كـ "عصفور يرفر بالبيت" في آخر أيامه، تواسي جراحها "الكل كان يحكي عن جمال بيته الجديد فكان كحبة اللؤلؤ، لكن إن شاء الله بيته بالجنة أجمل".
ما حدث مع أسامة جريمة إعدام، في جعبة والدته التفاصيل التي نقلها لها شهود عيان: "حينما اقتحم جنود الاحتلال القرية، خرج شبانها يرجمونهم بالحجارة، وخرج أيضًا أسامة، فأطلق قناصة الاحتلال رصاصهم على ابن عمه الفتى يوسف صبح (15 عاما) وهو وحيد أهله؛ ما أدى إلى استشهاده، وعندما حاول أسامة إسعافه أطلقوا عليه رصاصة متفجرة تسببت بحدوث نزيف أدى إلى استشهاده".
وأضافت الأم: "بعض الشهود شاهدوا جنود الاحتلال يرشقون جسد يوسف بالرصاص ويصعدون على جثمانه بالمركبات العسكرية، ثم أخذوا جثته معهم، في حين حاول الشباب إسعاف أسامة".
كان والد الشهيد أسامة يمسكُ رأس ابنه المسجى أمامه بيديه، وهو يرافقه بالصندوق الخلفي لسيارة الإسعاف عائدًا به إلى البيت لإلقاء نظرة الوداع قبل مواراته تحت الثرى، تلسعه دموع تتساقط بخفة من عينيه لتبلل جسد أسامة، في حين يحاول حبسها لحفظ صورة ابنه الأخيرة دون أي غبش، يحاوره بلا إدراك "طول عمرك عنيد وراسك قاسي يابا".
"طيب شو بدي أحكي لخطيبتك دنيا إلى كانت تموت عليك، عملتلك عيد ميلاد ولا احنا عارفين إنه آخر عيد الك، صرت دافع حق العجول للعرس، لمين بدي أذبحهن!؟.. قوم يابا وشوف السيارات اللي لاحقتك اللي بحبك واللي بكرهك جاي على زفتك اليوم".. هكذا تكون الحوارات موجعة عندما يحاور الأحياء الأموات.
"كنا مرتبين كل شيء بنفس ليلة يوم ميلاده، فحجزنا الصالة، والمغني، لكن في النهاية أخذ نصيبه، كان عنيدا في الحق حامل روحه بكفه وداير فيها، يتصدى مع الشبان بالحجارة لاقتحامات الاحتلال".. يطرق أسامة أبواب ذاكرة والده، ومن حوله أصوات المعزين: "كان عنيدًا لا يخاف من الاحتلال، لدرجة أنه اعتقل وهو طفل لم يتجاوز ثلاثة عشر عامًا لمدة ثلاثة أشهر، ثم جاء ضابط المخابرات وحاصر المنزل بقوات وجنود، ما زلت أذكر كلماته التي هددني فيها: "إما حتزوره بالسجن وإما بالقبر".
دنيا وأسامة أنهيا كل الاستعدادات والترتيبات لحفل الزفاف الذي كان مقررًا في السابع والعشرين من أكتوبر/ تشرين الثاني القادم، لكن رصاصة إسرائيلية وقفت بين بدلة الزفاف السوداء والكفن الأبيض، الذي رحل به إلى السماء، فتغير مسار مراسم الفرح.