منذ توقيع صك الإذعان الذي نسجت خيوطه في أوسلو ووقع في بؤرة الشر في واشنطن، وكما يؤكد كل ذي لب، وكذلك تواتر الأحداث ومنذ 13 أيلول 1993 بأنه صك أمني خالص يحول سلطة حركة فتح كرزاي إلى وكيل أمني حصري للاحتلال الصهيوني وبامتياز.
هذه الوشائج الأمنية في جوهرها إلحاق للسلطة في مقاطعة رام الله المحتلة وبتبعية مطلقة بكامل هرميتها بدءًا بما يسمونه الرئيس مرورًا بأجهزتها الإدارية والمالية والقضائية والاقتصادية (اتفاق باريس) وتحت سيطرة كاملة للأجهزة الأمنية حجر الرحى وبوابة العلاقة مع أجهزة أمن العدو التي تسيطر على الشأن كله فتعمل بمقتضى الأوامر التي تصدرها قيادة الشاباك ونموذجها الأوامر التي نفذها ماجد فرج حين أحبط مئتي عملية واعتقل مئة مناضل إبان عدوان تموز 2014، والأجهزة الأمنية الأخرى كالموساد التي تعطي تعليماتها للسفارات كما جرى مثلًا في قضية اغتيال الشهيد عمر النايف في سفارة "فلسطين" في صوفيا في بلغاريا، هذه أمثلة وما يجري حتى الغد يعد ولا يحصى! والتخابر يجري منذ ثمانية وعشرين عامًا وتتسارع وتيرته وفقًا لطبيعة المرحلة.
وهذه السلطة الأمنية نتاج لعمل حثيث بدأ منذ بداية السبعينيات أداره عباس بطول نفس منقطع النظير ولنتذكر عشرات عمليات الاغتيال التي وقعت في بيروت ودمشق وأوروبا وتونس وبالطبع في الضفة وقطاع غزة ودول عربية وأجنبية عدة.
وتوالت الوقائع ولم يكن ممكنًا أن تصبح واقعًا لأسباب كثيرة إلا في بداية التسعينيات مع صك إذعان أوسلو الذي يفاخر محمود عباس بأنه مهندسه الأوحد ويطنب في وصفه في كتابه ("Through Secret Channels" عبر المخارج السرية).
ويلاحظ أي مراقب أن سلطة حركة فتح يتسارع تماديها في الولوغ في الدم الفلسطيني، فتعتقل وتسلم المجاهدين للعدو جهارًا ونهارًا وتغتال من يشكل خطرًا على العدو وبأمر منه وعلى بقائها واستقرارها وبشكل منهجي دون رادع يدفعها لمراجعة حساباتها وللأسف حتى الآن! وأعتقد جازمًا أنها ستستمر على هذا المنوال حتى تجد من يضع حدًّا لكل ذلك ويقطع دابر اليد التي تمتد على الذين وضعوا أرواحهم على الأكف نصرة للأسرى والمسرى وكي ينتهي هذا التطاول الخياني الأرعن.
ولنتذكر ما قاله أسد فلسطين الدكتور عبد العزيز الرنتيسي حين بلغ السيل الزبى من الاعتقالات لرجالات حماس، وقد تنافست أجهزة أمن أوسلو في قطاع غزة على ذلك من الأمن الوقائي والمخابرات والاستخبارات وحتى الشرطة ليتوقف التغول حين بدأت حركة حماس في الرد على جنوح أولئك العملاء.
لقد فرضت المقاومة الباسلة خروجًا مذلًّا للاحتلال الصهيوني وقطعان مستوطنيه من قطاع غزة العزة والكرامة والصمود عام 2005 تحت ضربات الفرسان فكانت -كما أعتقد- نقطة التحول الكبرى في الصراع مع هذا الاستعمار الكولنيالي المدجج بكل الأسلحة الثقيلة الذكية والحديثة وترسانته الأيديولوجية المعززة بالأسطورة لتفرض سقوطًا تدريجيًّا وعدًّا تنازليًّا سيتسارع بالتأكيد وقد أثخنته المقاومة جراحًا في جوهر فكره الصهيوني حول "أرض الميعاد" المدعى "أرض إسرائيل". وسينسون يمينهم لأنهم سينسون كل لحظة مجنونة جاءت بهم إلى قبلتنا الأولى، أرض الرباط والمحشر والمنشر.
لقد "هاجر" ومنذ عقود أكثر من مليون مستوطن صهيوني دون عودة وهناك آلاف آخرون يغادرون كل عام إلى حيث أتوا، أما من يستعدون لذلك فقد أكدت آخر استطلاعات الرأي أن 40% يفكرون جديًّا في ذلك خاصة، وأن كل مستوطن يهودي في فلسطين يحمل جوازًا بجنسية أخرى على الأقل، وله ارتباطه ومشاريع خارج فلسطين المحتلة هروبًا من جحيم "أرض اللبن والعسل" والحبل لكل ذلك على الغارب!
في هذه السياقات التي تفرضها المقاومة ومحورها الصاعد يتبين المدى الذي تحدثه جرائم سلطة حركة فتح بما يفرض الضرورات الملحة لمواجهة حاسمة مع هذا التيار الخياني.
المقاومة الفلسطينية وحلفائها في الإقليم يفرضون تراجعًا أمنيًّا وجوديًّا استراتيجيًّا على العدو الصهيوني فينتقل من وضعية الهجوم الاستراتيجي الفعال إلى الدفاع النشط وفي عقر الدار بديلًا عن تاريخ عدواناته حين كان قبل عقدين يخطط للهجوم على ساحة عربية بعينها وحدد ساعة الصفر وزمن المعارك مع الأهداف السياسية المنوي تحقيقها، ومستوطنوه يعيشون أيامهم المعتادة بما في ذلك السباحة في البحر.
لقد أمسى ذلك من التاريخ، فالمقاومة باتت تقرر اليوم ساحة قتالها ردًّا على أي عدوان داخل فلسطين المحتلة، والمستوطنون بملايينهم في الملاجئ، وقد شلت اقتصاده وحركة ملاحته الجوية والبحرية والبرية وسياحته وتعليمه وجل شؤونه. ولم تزل سلطة فتح كرزاي سادرة في غيها تؤدي دورها الوظيفي الذي أعدت له فيتضاعف عدد الشهداء والأسرى والجرحى عما كان عليه الحال قبل صك أوسلو الأمني.
لقد مر على معتقلات العدو أكثر من مليون فلسطيني منذ الاحتلال بعدوان عام 1967، في الوقت الذي ازدادت فيه وتيرة الاعتقالات بعد أوسلو وأصبحت سلطة عباس "حصان طروادة" داخل القلعة الفلسطينية وكلاب الأثر في الأجهزة الأمنية يسلمون المئات من خيرة المناضلين لسيدهم المحتل.
ويتذكر الجميع ما جرى للمعتقلين في سجن بيتونيا تحت دعاوى حمايتهم من الاعتقال على يد العدو ومن ثم سلمهم جبريل الرجوب للاحتلال وسجن أريحا، والقيادات الفلسطينية التي لم تزل خلف القضبان بعد تسليم السلطة سجن أريحا ومن بينهم الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعدات والشوبكي وغيرهم الكثير من كوادر الثورة الفلسطينية.
ولا بد من استذكار أبطال خلية صوريف وكيفية غدرهم حين اعتقلهم العدو ومنتصر شلبي بطل عملية زعترة. أما الذين تم تسلميهم للعدو ليتم اغتيالهم أو الذين اغتالتهم مباشرة أيدي الإجرام في مقاطعة عار أوسلو فهم بالمئات، وهنا نذكر نماذج لهذا الاغتيال المنظم للشهيد الشيخ مجد البرغوثي وباسل الأعرج ومحيي الدين الشريف والشهيدين عماد وعادل عوض الله، وأحمد حلاوة، ونيفين العواودة، ورائد الغروف، وإيمان الرزة، وأحمد أبو حمادة، وعلاء العموري، وعماد الدين دويكات ونزار بنات.
لقد كان أيضا لهذه السلطة الفاسقة المجرمة اليد الطولى في إعادة اعتقال أبطال نفق الحرية الستة في سجن جلبوع، مناضل نفيعات، ومحمد ومحمود العارضة ويعقوب قادري، ولا بد من ذكر أن زكريا الزبيدي وأيهم كممجي كانا في معتقلات السلطة وتم تسليمهما لجيش العدو ليتم إيداعهما في سجن جلبوع، وحين نجحوا في كسر القيد أعادت سلطة العار تسهيل اعتقالهما مرة ثانية! ولا يعتقدن أحد أن فرسان الشعب الشهداء الخمسة أبناء جنين والقدس سيكونون آخر ضحايا هؤلاء القتلة في مقاطعة رام الله.
ونحن نودع الشهداء أحمد زهران، ومحمود حميدان، وزكريا بدوان، وأسامة ويوسف صبح، يتساءل الشعب الفلسطيني كله، إلى متى سيطول انتظار لجم وإنهاء دور هؤلاء القتلة عملاء الاحتلال؟ وهل ما زال هناك من يبحث عن دلائل تدينهم وتفضح دورهم القذر والخطر؟!
لقد مرغ هؤلاء الأبطال في ضفة القسام وعياش أنف العدو في الوحل وأسقطوا أمنه المتداعي أمام ضرباتهم وأثبتوا أنهم الأعلون وأن الانتفاضة مستمرة ومتصاعدة وستأخذ الاحتلال النازي وآخر احتلال في التاريخ إلى مصيره المحتوم ومعه كل كلاب الأثر المتآمرين.