فلسطين أون لاين

وما شممتُ رائحتكِ يوماً

...
غزة - آلاء المقيد

في هذه المدينة امرأة مكثتُ في رحمِها تسعة أشهر؛ إلى أن انقطع الحبل السري الذي كان يربطني بها, ثم رمتني في غسق الليل على الرصيف بلا اسمٍ ولا هوية؛ ثم ذهبت بلا وداع؛ لا أعرف هل كانت مذنبة أم أنه حدث قسراً؛ وأياً كانت ظروف ما حدث فهي امرأةٌ ربما ضمتني إلى صدرها لمرة وربما لم تفعل؛ لا شممتُ رائحتها ولا رأيت ملامحها؛ وبالتالي لا أستطيع أن أخاطبها بـــ"أمي".

أنا الآن في الحادية عشرة من عمري؛ لكن أعرف أنه سيأتي يومٌ تبدو فيه الحياة كــليلة عزاءٍ طويلة بعد أن يخبروني بالحقيقة؛ وحينها ستكون هذه الكلمات هي ما سأكتب لأبوح لنفسي عن هذا الحدث الجلل؛ ترى هل أخطر ببالك مثلاً أين أعيش الآن؛ هل صارت المولودة التي ألقيتِها طفلةً جميلة؛ تراها تتفوق على بنات صفها أم أنها جائعةً أم ضائعة أم تنام بدموعٍ تذرفها بكل حواسها وهي تحاول تخيلكِ.

في هذه المدينة امرأةٌ لا أعرف كيف هو شكل رمضانها؛ ولا فيما إذا كانت دمعتها تساقطت يوماً وهي تطهو الحساء الذي أحبه دون أن تدري أني أحبه؛ ربما تدعو دعاء المقهورين لي؛ أو أنها تستغفر بندمٍ في وقت السحرَ؛ وسأجرؤ قليلاً لأتوقع أن نسيانها لأمري مُرجّح .

إذا ما رأيتِ قدراً هذه الصفحة من الجريدة ربما يخبرك قلبك أن فيها شىء يخصك؛ إياك أن تظني أني أريد عتابك أو وخز ضميركِ؛ ولكني أريد إخباركِ بشىء واحد فحسب؛ لقد وضعني الله في طريق "أمي" التي احتضنت روحي طيلة تلك السنين؛ ولحسن الحظ أني أيضاً بدخولي حياتها تغير كل شىء لديها؛ وأتساءل أهي دعوةٍ منكِ لي أصابت السماء!.

رزقني الله بوالدين لم يُقدر لهما نعِمة الأبناء, لم أكن ثمرة حبهما الحقيقة لكنّي كُنت هدية الله لهما بعد عشرين عاماً من وحشة الانتظار, وكانا لي أجمل ما يُمكن أن يُهدى لطفلةٍ مثلي .

قبل مجيئي إليها أتعرفين ماذا كان حال تلك المرأة التي أصبحت فيما بعد أجمل الأمهات؛ كانت من فِرط شوقها لطفل, تُربَّي في بيتها قطةً مع صغارها, تحنو عليهم كما لو أنهم أولادها, توفر لهم الأجواء المناسبة ليكونوا بخير, وخصصت لهم غرفة في بيتها وفي كل يومٍ تُطعمهم بيدها .

حين جاءت باحثة الشؤون الاجتماعية بناءً على طلبِ منها بكفالة أحد مجهولي النسب وتربيتهم, حرك مشهد القطط أمام المدفئة وكُلّ له طبقه الخاص مشاعر الباحثة, وتساءلت: "كيف لامرأةٍ حنونة مع الحيوانات ألا تمنح فرصةً للأمومة؟"؛ لتوافق يومها فوراً على أن يكون لهذه العائلة طفل يكفلانه ليعيش في ظّل هذا الدفء الوارف, فكنت أنا هدية الله لهما؛ وأنهيت حرمانها؛ وحوّلت بقدومي إلى حياتها هي وزوجها من روتينٍ قاتل إلى جنةٍ كما تقول لي أمي.

فمنذ عشرة سنوات ونيّف ودّع بيتنا الدافئ السكون، واعتياد الهدوء، وأصبح ينبض بحسّ الأطفال، وفوضى لعِبهم، جدرانه تزينت بصوري بمراحلي العمرية المختلفة، كي تستقبلهم ملامحي الضاحكة في كل ركن.

لم تعد الأيام تمرّ مرور الكِرام؛ والمناسبات باتت فيها ألوان الفرح مُبهجة، بعد أن قتمت ألوانها لسنواتٍ طويلة، و لا اعتراض على حكمة إلهية من أن يُحرم إنسانان "حنانهما يمشي على الأرض" من نعِمة الأبناء، وفي المقابل لا يُقدرها من مُنحها.

تجربة معقدة أن أكون ابنة رحمك، وابنة أمي وشتان بينهما، لأقل أني سأحفظ لكِ حق الإطمئنان علي؛ عشتُ أجواء المناسبات والأعياد هنا وتقافزتُ فرحاً مع "أبناء عمي"؛ الذين يتضح للغرباء دوماً أن ثمة فرقٍ بيننا في لون البشرة.

أبي وأمي ينتظران شهر رمضان أكثر مني، ليخلقا لي أجواء الفرح في البيت لنسبق الجميع ونزينه بالأضواء البراقة، يجلس أبي لساعات وهو يصنع لي فانوس رمضان لأكون مميزة بين صديقاتي، وهو على استعداد أن يقضى يوماً آخر لصناعة فانوس بشكلٍ مختلف إذا لم يعجبني الأول ،"انتي بس اطلبي يا بنتي" يقولها لي وعيونه تمتلئ بالحب بينما أنا أزداد دلالاً.

وتحفني أمي بدعواتها لا سيما في أوقات الإجابة؛ و تستعيذ بالله من حياة لا نكملها معاً؛ لولاها لكان العيد حسرة أتجرعها كل عام.

أما أنا أخاف عليهما من المرض كما يخافان عليّ من النسيم، وكم أشعر بقمة حبي لهما حين أقوم من السجدة وأقول: "ربِ ارحمهما كما ربياني صغيرا "؛ أقبّل يديهما أمام الناس وفي السوق وبلا مناسبة، و دائماً ما ينهياني عن فعل ذلك، لكني أرى أن كل طرق الامتنان لا تُساوي شيئاً أمام ما يفعلناه لأجلي .

لعلك أصبحتِ الآن تدركين السبب الذي يجعلني لا أنطق بكلمة أمي إلا لتلك التي حملتني في قلبها، ولا تزال تثبت لي بكل ما أوتيتِ من رحمة أن الأمومة شعور عميق لا تتقنه كل النساء؛ وكأن الله اصطفى فؤادها ليأخذ النصيب الأكبر من هذا الشعور الرقيق، الذي يعطي ولا ينتظر ردّ الجميل .

لولاها لما تعلمت فضائل الأخلاق، وكَرم التعامل، واحترام الغير؛ ولكنت الآن منبوذةً المجتمع، إما يرمقني بشفقة أو يعاملني كــ"مذنبة".

سأكبر وأعرف الحقيقة المرّة وأتجاوزها لأقف مجدداً؛ وأقول: (الجنة تحت أقدام أمي) التي علمتني واحتضنتني؛ ومع ذلك دعوني أتمنى لتلك المرأة التي تعيش في هذه المدينة وافر الصحة والعافية. هذه الأم إن صادفتها هذه الكلمات ستقول: "يا ليتني كنت نسياً منسياً".