مرَّت منذ أيام ساعة ذكرى توقيع صك إذعان أوسلو الثامنة والعشرين، أو كما وسموه بـ"اتفاق إعلان المبادئ" وهو الذي ناقض في نصوصه كل مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والاتفاقيات التي انبثقت عن المنظمة منذ عصبة الأمم.
لقد كان ثمن هذا الصك كارثيًّا بكل المعاني ولا يجوز أبدًا نعته بـ"اتفاق" لأن أي اتفاق يكون دومًا تعاقديًّا بين طرفين أو أكثر بينهم تكافؤ أو يكاد، حتى يكون ما ينجم عن ذلك حلًّا وسطًا أو تسوية قابلة للحياة ولو إلى حين، وتحميه الأطراف التي وقّعته ومهرته بتواقيعها ورضاها النسبي، وتوفر ضمانات إنفاذ على المستويات الإقليمية أو الدولية.
وإعلان أوسلو لا يمتلك أي سند أو صفة وطنية وهو الذي وُقّع بليل من وراء كل الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية ودون أي ضمانات رسمية دولية تُلزِم أطرافه بتنفيذه، وهو الذي تمت المحادثات بشأنه عن طريق مؤسسة "فافو FAFO " للأبحاث التابعة لحزب العمال النرويجي حتى تبقى سرية حتى على الوفد الرسمي الذي انتدبته منظمة التحرير الفلسطينية -حين كانت ببرنامجها السياسي وتشكيلة هيكلها التنظيمي وتمثيلها منظمة تحرير فلسطينية- وهو الذي ترأسه الوطني الفلسطيني الكبير المرحوم د.حيدر عبد الشافي. وكان الهدف أيضًا الهروب إلى الأمام من ردود الفعل التي كانت ستكون صاخبة لجماهير شعبنا الفلسطيني المرابط الصامد، وستصب الزيت على نار الانتفاضة الشعبية الكبرى والتي لم يزل أوارها متقدًا في ذاك الحين ويهدد العدو في مقتل، فجاء الصك طعنة في خاصرة شعب قدم التضحيات من أجل استقلال حقيقي بعيدًا عن المساومات التي شكَّلت زلزالًا لم يزل يطيح بعديد الثوابت الوطنية، أما العدو فقد كان وأمام زلزال الانتفاضة يترنح ويبحث عن مخرج يتمكن من خلاله تصفية حساباته مع هذه المقاومة الشعبية العارمة. وكان العدو -كما هو اليوم- يواجه إدانة دولية ناجمة عن سياساته في قتْل وقمع المتظاهرين السلميين وسياسة تكسير العظام التي انتهجها ثنائي القتلة اسحق رابين وشيمون بيريز.
أما منظمة التحرير الفلسطينية ككيان سياسي فقد واجهت متغيرات جوهرية إن لم تكن جذرية بعد الرحيل من بيروت بعد الغزو الصهيوني للبنان وحصار بيروت عام 1982 وكذلك حين وقعت في خطيئة الانحياز للعراق حين احتل الكويت فاختل ميزان علاقاتها العربية ففقدت وزنها وتسربت إلى قياداتها في معظم ألوانها السياسية والأيديولوجية مخططات المساومة والتنازلات الإستراتيجية غير المبدأية في كثير من الأحايين.
لقد بدأ هذا الجنوح منذ اعتماد ما سُمّي "برنامج النقاط العشر" والذي "طُوّر" إلى "البرنامج المرحلي" دون الاعتراف بكيان العدو ولكنه برنامج أبقى الباب مواربًا للولوج إلى نهج أوسلو وما تلاه من سقوط "عظيم".
منظمة التحرير تفقد مشيتها وثقتها بشعبها وتلتف على الانتفاضة الشعبية وأهدافها وتصميمها في المضي قدمًا على طريق تعرف ثمن وعظم التضحيات فيه.
وتذهب منظمة التحرير إلى أبعد من ذلك حين تشطب ميثاقها الوطني والذي سبقه الاعتراف بكيان العدو على أكثر من 78.4% من الأرض الوطنية وما يعنيه وفقًا للقانون الدولي بسيادة العدو على إقليمه وسكانه المستوطنين ومصادره الطبيعية.
منظمة تعلن نبذ الإرهاب "Renounce" وهذا ووفقا لمعناه الاصطلاحي القانوني إعلان القطيعة وبأثر رجعي مع المقاومة واعتبار هذا عدوان مُدان على "الدولة" التي اعترفت بها منظمة التحرير بل ومحاربة هذا الإرهاب، ولهذا يؤكد عباس وزبانيته تقديسه التخابر الأمني مع العدو، وأن المقاومة فوضى وإرهاب ولندقق جميعًا بالدور الذي لعبته أجهزة كرزاي اليوم في إعادة اعتقال أقمار فلسطين وأبطال ورموز هذا الشعب العظيم، رجال نفق سجن جلبوع.
ولم يأتِ عبثًا الاستثناء الكامل لكل رموز السيادة الوطنية وتأجيلها -وهو في الواقع العملي إلغاء كامل لها كما أكدت وقائع عنيدة لا تحصى -وهي: الاستيطان (أي الأرض الوطنية)، والقدس، واللاجئين، والمياه، وبالطبع الاقتصاد الذي رُبط بما سمي أيضًا "اتفاق باريس الاقتصادي" الذي ألحق كل تفاصيل الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد السيد لكيان الاحتلال.
لقد أكد ودون ملل رؤساء الوزراء المتعاقبين لدولة العدو، أنهم جاهزون لمباحثات تمتد لعشرين عامًا، وها نحن في العام الثامن والعشرين الذي نشهد فيه استمرار الاستيطان حتى أنه لم يبقَ تحت أقدامنا أكثر من 9% من الأرض الوطنية ودون أي سيادة على متر منها مع تسارع للنهب المنهجي المنظم في الوقت الذي يقتل فيه عباس وأجهزته الأمنية العميلة كل صوت مقاوم.
صك إذعان أوسلو الذي تم توقيعه في حديقة الزهور في البيت الأبيض الأمريكي كان لوضع أكاليلها على جثمان الوطن المسجى الذي باعه أبناء الجلدة وأسموه دون شرف "سلام الشجعان".
لقد كانت التسميات الإدارية لمكونات "إعلان المبادئ" هي تمامًا تلك التي يطلقها العدو على منظومات الحكم المحلي. فالسلطة الفلسطينية هي تمامًا كسلطة الأمان على الطرق أو سلطة الكهرباء، أما المجلس الفلسطيني فهو مجلس بلدي يدير إنفاذ سياسات العدو التعلمية أو الصحية وغيرها دون تدخُّل في صياغتها بأي حال.
كما ورد مصطلح مخادع حين تم استعمال "انسحاب في Withdrawal In " وليس " انسحاب من Withdrawal From " وهو يعني " إعادة انتشار Redeployment " وهذا يتم وفق المقتضيات الأمنية للدولة السيدة وهي كيان العدو في الوقت الذي يعني فيه مصطلح الانسحاب: انسحاب قوات طرف من أراضي طرف آخر !!
أما قضية اللاجئين ووفقًا لنص الصك فهي ليست شأنًا ثنائيًّا أصلًا، وإنما تُعالَج في اللجان المتعددة بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في دول اللجوء والشتات حيث هم أو في بلد ثالث يقبل بذلك وقد أُعدت الكثير من الخطط والأموال لهذا الشأن وجرى تداول كندا وأستراليا والدول الإسكندنافية وغيرها لذلك. ولنلاحظ تغيُّر تصريحات قادة سلطة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية في المؤتمرات والندوات الدولية وبعد أوسلو لينتقلوا من القول: عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي اقتلعوا منها عام 1948 وتعويضهم وفقًا لقرار الأمم المتحدة 194 لتصبح تصريحاتهم: حل عادل لمشكلة اللاجئين متفق عليه، لأن قادة السلطة والمنظمة يعلمون أنه بعد الاعتراف بكيانهم أضحت السيادة على الإقليم لهم وهم الذين يقررون إن كان مسموحًا عودة لاجئ فلسطيني واحد، بل ويصرح قادة العدو أنه لا عودة ولا دولة ولا قدس ومع استمرار الاستيطان حتى آخر شبر من فلسطين.
هذه بعض من حقائق ما انطوى عليه صك إذعان أوسلو في الوقت الذي يستمر فيه فريق عباس تكريسه لخطط حماية كيان العدو بمستوطناته ومستوطنيه وبالأمس فقط انتشرت أجهزته الأمنية حول حاجز الجلمة في جنين "للذود" عن جنود جيش الاحتلال والتغطية على اعتقال أحرار سجن جلبوع أيهم كممجي ومناضل انفيعات في الوقت الذي يستمر فيه أبطال مقاومة جينين-غراد مهاجمتهم ولليلة السادسة على التوالي لهذا الحاجز.
انتفاضة الشعب الفلسطيني المرابط مستمرة وقد قرر الاستمرار حتى الظفر الأكيد لإنهاء الاحتلال وطابوره الخامس مرة وإلى الأبد.