فلسطين أون لاين

مقال: أوهام في العمل الفلسطيني (4)

ناقشنا في مقالات سابقة ثمانية أوهام في العمل الفلسطيني، ونناقش في هذا المقال وهمين آخرين.

الوهم التاسع: تحرير فلسطين من داخلها:

المقاومة الفلسطينية في الداخل، وصمود الشعب الفلسطيني على أرضه، ومواجهته للاحتلال بكل السبل ركن أصيل في مشروع تحرير فلسطين من نهرها إلى بحرها، كما أن تحرير أي جزء من فلسطين نتيجة ضربات المقاومة هو خطوة مهمة باتجاه تحرير كل فلسطين، والتأسيس لمشروع المقاومة على الأرض المحررة، وهذه المقاومة وهذا الصمود يشكّلان حائط صدٍّ في وجه المشروع الصهيوني، وخط الدفاع الأول عن الأمة، ورأس حربة في مواجهته، وأداة قوية في اهتزاز أمنه وضرب اقتصاده، ونزع “شرعيته”.

ربما كان أحد أسباب حديث بعضٍ عن تحرير فلسطين من داخلها هو حالة اليأس من البيئة العربية والإسلامية الضعيفة والمتخلفة والمفككة، وركون الفلسطينيين المُحبِط عشرات السنوات بعد النكبة بانتظار التحرير القادم من البلدان العربية، والهزائم التي تلقتها الجيوش العربية، وجنوح البلدان العربية للتسوية السلمية والتطبيع مع العدو؛ في مقابل ما حققته قوى المقاومة من أعمال بطولية وانتصارات، خصوصًا في قطاع غزة. غير أن هذا التوصيف يؤكد الدور الحيوي للمقاومة، لكنه لا يلغي المسار الحيوي للبيئة الإستراتيجية المحيطة عندما يتعلق الأمر بالتحرير الكامل لفلسطين.

إنّ إنهاء المشروع الصهيوني والتحرير الكامل لفلسطين -وفيها الأرض المحتلة سنة 1948 التي أقيم عليها الكيان الإسرائيلي- أمر مرتبط بمعادلة أوسع مبنية على أساس تحقيق تكافؤ أو تفوق إستراتيجي مع الكيان، بحيث ترجح موازين القوى لمصلحة مشروع التحرير في مقابل المشروع الصهيوني.

قد يقوم الكيان الصهيوني بانسحابات وإعادة تموضع وفقًا لحساباته الإستراتيجية ومصالحه العليا، وتقليل الأعباء والمخاطر، وهو ما قد ينطبق على أجزاء من الأرض المحتلة سنة 1967، التي تُعدُّ أرضًا محتلة، طبقًا لما يسمى “الشرعية الدولية” والقانون الدولي؛ ولكن مسألة انهياره وانتهائه كيانًا أمرٌ آخر.

تشير الحقائق الموضوعية إلى أن الكيان الصهيوني يملك قوة عسكرية متفوقة، يمكن أن تهزم البلدان العربية، كما يملك أسلحة دمار شامل، منها أكثر من مئتي قنبلة نووية، وعندما يهدده خطر وجودي، فإن أداءه العسكري سيختلف عن أدائه في الإدارة التقليدية للصراع.

كما أن المشروع الصهيوني يملك مظلة دولية من قوى عظمى تدعمه وتوفر له الغطاء السياسي والعسكري والاقتصادي، لأن وجوده مرتبط بمصالحها الكبرى، خصوصًا الولايات المتحدة، وقبل ذلك بريطانيا وغيرها، فهي نفسها رعت إقامته، كما ترعى استمراره وترعى شروط تفوقه، ومن ثم الصراع ليس مجرد صراع مع الكيان، وإنما يتخذ شكلًا أوسع في مواجهة تحالف المصالح الدولية وارتباطاتها به، وبخلفياتها الدينية والثقافية والأيديولوجية والاقتصادية التي تدفعها لحمايته، وإن تفكيك هذه العلاقة وتحويلها إلى حالة خاسرة يقع ضمن المعركة الأوسع في إدارة الصراع مع العدو.

ثم إن ما يسمى “الشرعية الدولية” تعترف بالكيان الإسرائيلي على فلسطين المحتلة 1948، وتؤيد الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، وستقف ضد أي محاولات لإنهاء هذا الكيان، ما لم يطرأ تغيير جوهري في “العقلية” الدولية، مرتبط بنشوء معادلات جديدة في المنطقة، وتحول الكيان إلى عبء كبير على المنظومة الدولية، وتطور وفاعلية الدعاية والإعلام المقاوم لإحداث نقلة نوعية من هذا النوع.

وصحيح أن أحد أسباب انسحاب الاحتلال الإسرائيلي هو المقاومة الفلسطينية وبطولاتها، غير أن الانسحاب بحد ذاته في سنة 2005 جاء أيضًا ضمن عملية إعادة تموضع إسرائيلي، وفق خطة شارون التي هدفت لفرض مسار تسوية سلمية مبني على انسحاب من طرف واحد؛ بحيث يتخلص الكيان من أعباء احتلال وإدارة مناطق الكثافة السكانية العالية، وعلى رأسها قطاع غزة، والاحتفاظ بأكبر قدر من الأراضي ذات الكثافة السكانية المنخفضة، وهو ما يحدث في الضفة الغربية، كما حافظ على قدر من الهيمنة على الأرض التي انسحب منها، ولذلك أبقى على حصاره لقطاع غزة، وعلى تحكّمه بحدوده البرية والبحرية والجوية طوال السنوات الستة عشرة الماضية.

إن تحرير فلسطين عملية متكاملة تتحقق بالتوازي بين مشروع المقاومة الفلسطيني، والمشروع النهضوي الوحدوي للأمة؛ ولا يلغي أحدهما الآخر، كما لا يحلّ مكانه.

 

الوهم العاشر: تحرير فلسطين دون مشروع نهضوي وحدوي:

وهذه النقطة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بسابقتها.

لا يستهدف المشروع الصهيوني الفلسطينيين وحدهم ولا أرض فلسطين وحدها، وهو كيان نشأ في قلب العالم العربي وقلب العالم الإسلامي، يفصل شطري هذين العالمين الآسيوي عن الأفريقي، وهو كيان عدواني توسعي، لا يجد لنفسه مستقبلًا في المنطقة إلا إذا كان ما حوله (البيئة الإستراتيجية المحيطة) ضعيفًا ومتخلفًا ومُفككًا؛ فالبيئة العربية المسلمة هي بطبيعتها بيئة معادية لهذا الكيان، وهذا سبب وجود أنظمة فاسدة ومستبدة لا تعكس إرادة شعوبها؛ وهي تُمثل “القشرة” السطحية الراغبة في التسوية والتطبيع؛ تعبيرًا عن عجزها أو ضمانا لبقائها بإرضاء القوى الدولية الحليفة للكيان، وعلى رأسها الولايات المتحدة.

إن جوهر القضية الفلسطينية مرتبط بمشروع استنهاض الأمة؛ إذ إن المعادلة التي يقوم على أساسها الكيان الصهيوني أن قوته واستمراره مرهونان بضعف الأمة وتخلفها، وأن إنهاءه وزواله مرهونان بقوتها ونهضتها ووحدتها، تحديدًا في البيئة الإستراتيجية المحيطة به.

ومن ثم، إذا كان الهدف هو تحرير فلسطين كاملة؛ فإن الحديث عن التكافؤ الإستراتيجي والوصول إلى “النقطة الحرجة” التي تُمكِّن من المضي في إنهاء الكيان يرتبط بمشروع نهضوي وحدوي، خصوصًا في البيئة الإستراتيجية المحيطة بفلسطين، وهذه البيئة هي التي تشكّل حاضنة المقاومة في الداخل ورئته وعناصر نموه وعنفوانه؛ وهي التي تملك (بعيدًا عن هيمنة الاحتلال) الأسباب والأدوات التي تمكنها من معالجة الاختلال في موازين القوى، وتحقيق الثقل النوعي المطلوب.

إن قضية فلسطين بخطورتها والتحديات الكبرى الإقليمية والدولية التي تفرضها هي اختبار التأهيل وبرنامج الصعود الكبير الممزوج بالآلام والمعاناة والمصاعب؛ الذي قدَّره الله سبحانه للأمة للارتقاء إلى مستوى “الاستخلاف” في الأرض، ومستوى التحرير على يد جيلٍ هم “عبادٌ لله، أولي بأس شديد” (سورة الإسراء: 5)، وإن الأزمات التي تشهدها المنطقة، وتجربة ما يعرف بـ”الربيع العربي” الذي ظهرت فيه روح الأمة المتطلعة للحرية والتغيير، والمنسجمة مع عقيدتها وتاريخها وتراثها؛ هي مؤشرات على حالة المخاض التي تشهدها المنطقة، باتجاه موجة جديدة أو موجات قادمة تستعيد فيها الأمة إرادتها وعزتها وكرامتها، وتستنهض عوامل قوتها ووحدتها ونهضتها، وتتماهى مع المقاومة في فلسطين، لتحقق “الوزن النوعي” المطلوب، ولتفرض موازين قوى إقليمية ودولية جديدة، وتتقدم نحو تحرير كل فلسطين.

وإلى لقاء مع أوهام أخرى.

المصدر / عربي 21