خطة "الاقتصاد مقابل الأمن" التي طرحها يائير لابيد وزير خارجية الاحتلال للتعامل مع غزة تشكل نسخة مكررة من مشاريع الاحتلال السابقة للتغطية على فشله في إسقاط المقاومة الفلسطينية في غزة أو دفعها نحو الاستسلام، أو إرغامها على إيقاف تطوير منظوماتها العسكرية المتنامية خاصة الصاروخية منها والتي باتت تشكل تهديدًا وجوديًّا لاستقرار وتمدُّد المشروع الصهيوني في أرض فلسطين المحتلة.
اعتراف لابيد بأن "مطلب نزع سلام المقاومة ليس واقعيًّا" هو إقرار صهيوني رسمي بالفشل الذريع في نزع سلاح المقاومة وإسقاطها في غزة، وهذه القناعة توصل لها جيش الاحتلال وحكوماته المتتالية بعد سلسلة من الحروب العنيفة التي شنتها على غزة في أعوام 2008، 2012، 2014، 2021 دون أن تتمكن من هزيمة حماس، أو إرغامها على الاعتراف بـ(إسرائيل) أو التنازل عن السلاح.
الإعلان عن خطة لابيد جاء في كلمته أمام المؤتمر السنوي لمكافحة الإرهاب الذي تعقده جامعة رايشمان في مدينة هرتسليا، ما يشير إلى أن نقطة الانطلاق هي محاربة المقاومة الفلسطينية بوصفها إرهابًا، وهي دلالة على عدم إقرار حكومة الاحتلال بأي حقوق سياسية للشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، إذ تفضل حكومة بينيت استخدام "الجزرة" بعد فشل أسلوب "العصا الغليظة" في التعامل مع غزة، ومفاد هذه الخطة تقديم إغراءات اقتصادية لغزة مقابل التزام المقاومة فيها بالتهدئة طويلة المدى مع الاحتلال.
إقرار لابيد بمناقشة خطته الاقتصادية مع أطراف دولية متعددة مثل الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي ومصر ودول الخليج يعني بأن كيان الاحتلال قطع شوطًا في عملية الترويج السياسي لهذه الخطة، وأن حكومات تلك الدول باتت على علم بالخطوط العريضة لخطة حكومة بينيت للتعامل مع ملف غزة، ومن غير المستبعد أن يحاول بعض الوسطاء في المستقبل طرح هذه الخطة على قيادة حماس بوصفها رؤية دولية لمعالجة ملف غزة.
خطة لابيد المعلنة تنقسم إلى مرحلتين أولاهما إعادة إعمار غزة وتقديم احتياجاتها الإنسانية مقابل "إضعاف قوة حماس العسكرية عبر قوات دولية"، وكأن الاحتلال يستغيث بقوات دولية لتنفيذ ما فشلت أجهزته الاستخبارية وجيشه -الذي يفخر بأنه أقوى جيوش المنطقة- في تنفيذه في غزة، في حين تشير المرحلة الثانية من الخطة إلى خطوات اقتصادية تسهم إيجابيًّا في تغيير واقع غزة كليًّا، وهي مرحلة تأتي بعد إضعاف قوة المقاومة، وهنا نستذكر بمرارة وعود الاحتلال الزائفة للفلسطينيين إبّان توقيع اتفاقية أوسلو المشؤومة التي نعيش ذكراها السنوية الثامنة والعشرين، حين وعد بتحويل غزة إلى "سنغافورة".
وعود الاحتلال الواردة ضمن خطة لابيد ما هي إلا حفنة من الأوهام التي يهدف الاحتلال من خلال بثّها أمام الإعلام إلى شراء الوقت، ودفع الفلسطينيين إلى القبول بخطته الاقتصادية طمعًا برغد العيش الاقتصادي، إذ يشترط الوصول إلى هذه المرحلة موافقة المقاومة على إضعاف قوتها العسكرية، وعودة السلطة الفلسطينية التي فشلت سياسيًّا في إقامة دولة فلسطينية، وباتت تفتقد أي حاضنة شعبية في الشارع الفلسطيني لتحكم غزة من جديد، وكأن حكومة الاحتلال تهدف إلى بث الروح من جديد في هياكل السلطة الفلسطينية التي باتت منبوذة فلسطينيًّا بفعل إصرارها على سياسة التعاون الأمني مع جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية المختلفة.
تشير خطة لابيد إلى وعود صهيونية مستقبلية بإقامة شبكة مواصلات بين غزة والضفة، وتطوير مشروع جزيرة اصطناعية قبالة ساحل غزة، وهي وعود مستوحاة من "خطة كاتس" التي قدمها وزير مواصلات الاحتلال "يسرائيل كاتس" مطلع عام 2017 والتي تحدثت عن إنشاء ميناء عائم مقابل ساحل غزة، يعمل عبر قوة دولية ورقابة صهيونية، وهي الخطة التي وافقت عليها آنذاك أجهزة أمن الاحتلال، في حين رفضتها السلطة الفلسطينية بذريعة أنها تعمق الانقسام بين الضفة وغزة.
تشمل خطة لابيد القيام بخطوات إصلاح منظومة كهرباء غزة، وبناء محطة تحلية للمياه، وتحسين نظام الرعاية الصحية، وإعادة بناء البنية التحتية في غزة، وجميعها خطوات تؤكد من جديد مسؤولية الاحتلال المباشرة في استمرار معاناة غزة، وحرمانها من تطوير بنيتها التحتية بفعل جريمة الحصار التي يواصل الاحتلال ارتكابها بحق مليوني فلسطيني في غزة، وهي دلالة على أن إجراءات الاحتلال كانت وما زالت تعيق توفير حياة كريمة لأهالي غزة، وأن كسر الحصار كفيل بتحقيق الاستقرار والتنمية الاقتصادية في غزة.
يلمّح لابيد من خلال خطته إلى مساعي حكومة بينيت بتحقيق شراكة اقتصادية مع مصر والسلطة الفلسطينية تضمن للاحتلال موطئ قدم ضمن المشاريع الاستثمارية لتطوير البنية التحتية في غزة مستقبلًا، ما يوفر للاحتلال أرباحًا اقتصادية جمّة، وهو هدف مرفوض فلسطينيًا لكونه يعزز من تبعية الاقتصاد الفلسطيني لاقتصاد الاحتلال، ويُسهم بطريقة غير مباشرة في إطالة أمد الاحتلال وتعزيز قدراته الاقتصادية والعسكرية.
اشتراط لابيد التزام حماس بتهدئة طويلة الأمد يُقصَد منه لجم المقاومة الفلسطينية، وعدم تدخلها في أي أحداث سياسية أو ميدانية خارج حدود غزة، وهنا نستذكر مبادرة المقاومة الفلسطينية إلى إطلاق رشقات صاروخية على مدن الاحتلال تلبية لاستغاثات ونداءات المرابطين في المسجد الأقصى، وأهالي حي الشيخ جراح في القدس الذين تعرضوا إلى عدوان كبير من جيش الاحتلال خلال شهر مايو الماضي، ومن المستبعد أن توافق المقاومة على مثل تلك الاشتراطات الصهيونية، خاصة من تهديدات الاحتلال المتصاعدة ضد محافظة جنين شمال الضفة المحتلة والتي توعدت كتائب القسام في غزة بإسنادها في أي معركة مقبلة مع الاحتلال.
يدرك لابيد وغيره من قادة الاحتلال بأن المقاومة الفلسطينية لن تقبل بإضعاف قوتها العسكرية، أو تجميد تطوير منظومتها الصاروخية، والتي أصبحت تشكل ذراعًا ضاربًا للمقاومة، تردع من خلالها كيان الاحتلال، لذلك أعلن وبوضوح بأن الهدف من طرح الخطة هو إظهار بأن حماس –وفق زعمه- هي سبب معاناة الشعب الفلسطيني، بمعنى أن حكومة بينيت ما زالت تصر على استمرار حصار غزة، وهي تطرح خطة اقتصادية للإعلام بهدف التنصل من مسئولية معاناة غزة، وتحسين صورة الاحتلال المشوهة أمام العالم، واتهام المقاومة كذبًا بأنها سبب معاناة الفلسطينيين.
ختامًا وبالعودة إلى صفقة القرن التي أفشلها التكاتف والصمود الفلسطيني، نجد أن خطة لابيد تشابه إلى حد كبير بعض بنود تلك الصفقة، والتي اشترطت نزع سلاح المقاومة، وسيطرة السلطة الفلسطينية أو أي هيئة مقبولة لدى الاحتلال قبل إقدامه على القيام بأي خطوات تخفف من حصار غزة، وقناعتنا أنه كما اندثرت صفقة القرن ومن قبلها عشرات المشاريع الصهيونية التي هدفت إلى تصفية القضية، ستفشل خطة لابيد وتندثر، وسيستمر الصراع حتى تحرير القدس وزوال الاحتلال.