فلسطين أون لاين

خرج من قوقعة "الإعاقة" إلى "النادي الملكي"

نضال الداعور.. بيدٍ واحدة كسرَ قانون "كمال الأجسام"

...
تصوير/ محمود أبو حصيرة
غزة/ يحيى اليعقوبي:

دخلَ لعبةً قانونها وارتكازها الأساسي يعتمد على كلتا اليدين؛ لا يمكن ممارستها بيدٍ واحدةٍ، لكنه أدرك أن "لا مستحيل أمام الإرادة"، فكسر قانون رياضة "كمال الأجسام" واكتمل بناء جسده رغم بتر يده اليسرى ليصبح ملهمًا لذوي الإعاقة التي خرج من قوقعتها إلى عالم رياضة القوى.

في "النادي الملكي" توج نضال الداعور إصراره، تبرز عضلات ساعده الأيمن وصدره المنتفخ وكأنَّه على وشك تمزيق قميصه الرياضي الأسود، في حين كان هاتف يتنقل برشاقةٍ بين أذنيه.

حتى عام 2008 عمل الداعور (37 عامًا) مسعفًا في جهاز الدفاع المدني، وفي محاولته إسعاف مجموعة من المصابين وانتشالهم في عزبة "عبد ربه" شمال القطاع في الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة، استهدف الاحتلال الإسعاف الذي كان يقوده قبل أن يصل إلى الناس، فبترت يده على إثر الإصابة.

الخروج من "القوقعة"

آنذاك استحكم البؤس من نفسه، وقرعت أجراس الخوف في عقله، يقفُ أمام المرآة بحسرةٍ وهو يرى البتر قد حول جهته اليسرى لمكان ضعيف يعاني "ضمورًا عضليًّا" يرى "الخلايا والأنسجة العضلية تموت في مكان لا توجد به حركة".

انتهت مكالمته الهاتفية وركن الهاتف جانبًا ليُطل على ذاكرة الحدث: "لم أستطِع ممارسة حياتي بسبب اختلال بناء الجسد بعد البتر، فكان الجسد من الجهة اليمنى طبيعيًّا وسليمًا، أما من اليسرى فأصبح فيه ضمور".


11.JPG

ويضيف: "توجهت للأطباء وخضعت لجلسات علاج طبيعي، وكانوا يضعون أوزانًا في يدي اليسرى ويطلب مني الطبيب تحريكها في كل الاتجاهات، والاستمرار في ذلك طيلة حياتي، ومن هنا بدأ الارتباط بيني وبين لعبة كمال الأجسام؛ ومع الأيام واللعب والتدريبات ذهب الضمور وتلاشى".

أخرج قطعة قماشية بلون أسود تملؤها الحلقات وبعض التمزيق من أثر الاستعمال، يرتديها بكتفه اليُسرى ويلف رباطًا متصلًا بها بكتفه اليمنى بشكل يعينه على شد الأثقال.

بضحكة أفلتت من شفتيه يقول عن تلك الخرقة: "هذا جهاز رياضي صممته، وخدمني في تشكيل جسدي، فكل حلقة فيه لها وظيفة إما لتشكيل الصدر أو الظهر والأكتاف، وهكذا أصبحتُ إنسانًا رياضيًّا بالكامل ثم مدربًا".

وقف من فوق كرسيه وخلع قميصه وبرزت عضلاته المتناسقة من الجهتين مكتملة البناء، الصدر المنتفخ، المعدة بعضلاتها الست، الصدر بتشريح والأكتاف والساعد القوي، القدمان القويتان وكذلك ساعده الأيمن.

تجهز لأداء التمارين وقبل ارتياد الجهاز الرياضي الذي صممه لفَّ مشدًّا على كتفه المبتورة بعد أن أمسك طرفه بأسنانه وبدأ يلفه بسرعة ورشاقة بيده اليمنى على الكتف المبتورة.

 

 


وبينما يواصل الداعور تجهيز نفسه، يؤكد أن ممارسة أي تمرين عضلي في رياضة كمال الأجسام ليس سهلًا على الإنسان العادي ويتطلب استعدادًا نفسيًّا وبدنيًّا، "والأمر كذلك بالنسبة لي، إذ يجب عليّ معايرة الحبل والتأكد من توازن اليدين، فقانون اللعبة يعتمد على كلتا اليدين لأنهما تصنعان التوازن ومن خلالهما يتم إبراز عضلات الصدر والأكتاف والظهر وكذلك القدمين، فلما يمارسها الإنسان بيدٍ واحدة، يصبح السؤال "كيف سيرفع الأثقال؟".. لأني بمكان ليس مكاني -هكذا يقول الآخرون- وهذا هو المنطق الذي كسرته".

المدرب الملهم

في صالته الرياضية الكبيرة التي تملؤها أجهزة رياضية حديثة، وصور لأبطال لعبة كمال الأجسام تزين الجدران، خطف "الداعور" أنظار اللاعبين وهو يقف بين جهاز "السكوات" (Power Rack) وأخذ يشد بحبلين ممسكًا طرفًا بيده اليمنى أما الأسير فأوصله بإحدى حلقات الجهاز القماشي المثبت على كتفه، وبدأ بدفع يديه للأمام وللخلف بوتيرة متناسقة، وكررها عدة مرات.

هنا ستذهل حين حمل ثقلًا "دامبلز" بوزن 40 كغم بعد أن استلقى على كرسي الجهاز، وبدأ يرفعها بطرفه الأيمن، وعلى الطرف المبتور علق "الدمبلز" الأخرى لتصبح ثقلًا على الأرض يمسكها معه أحد اللاعبين الذي ذهل من إرادة نضال أيضًا واحتار في وصفه: "وحش يا كابتن!".

تسمع أنفاسه اللاهثة وهو يزفر عناء الإجهاد، في عينيه ينبعث بريق التحدي، وعلى وجهه تتجمع كل خصال الإرادة، بدا ذلك واضحًا بينما أخذ يعرض شريطًا مصورًا يظهر فيه وهو يحمل ثقلًا يزن 200 كغم موزعًا على الجهتين.

هدأ هدير أنفاسه ومسح قطرات العرق بمنشفة علقها على رقبته، موضحًا أن تعلقه بألعاب القوى هو ما دفعه لإنشاء نادٍ خاص به، "فبعد سنوات طويلة من اللعب بعد الإصابة عملت على المشروع، واستطعت فيه خدمة ذوي الإعاقة، فبعد أن شاهدوني جاء عدد ليس بسيطًا من أصحاب البتر العلوي والسلفي لتدريبهم، وكأني أصبحت ملهمًا لهم".

ويشدد على أن الإصابة بإعاقة لأي سبب كان لا تعني أن يضع المرء يده على خده والدوران في حلقة مفرغة من الأحزان، بل عليه أن يبني حياته على أساس إعاقته ومواصلة البناء.

وبرضا كبير ينصت اللاعبون لنصائح مدربهم، وهذا سببه -كما يقول- "لغة الجسد، فبجسم رياضي متناسق بالكامل مع معلومات علمية رياضية سليمة كفيلة بأن تقنع اللاعبين"، وكان هذا الاكتمال سببًا لتسمية النادي بـ"الملكي" بعدما وصل لقمة رياضة ذوي البتر.

 

22.JPG

ويطمح الداعور لانتزاع لقب بطل العالم في رياضة كمال الأجسام لأصحاب الإعاقة الخاصة، والمسجل باسم رياضي أمريكي، عرض نضال صورته معلقًا: "أصبحنا صديقين، فنحن تقريبًا الوحيدان اللذان يمارسان اللعبة"، متممًا حديثه بضحكة الواثق: "حنتزع اللقب منه ليسجل باسم فلسطين".

ورغم تلك القوة، بقي الجانب الأسري في حياة نضال الذي لديه أربعة أطفال (ولدان وبنت) مخفيًا، في لحظةٍ سيطر الأسى على بريق عينيه وتجسد في صوته "بصراحة نفسي أحمل ابني وأرفعه بالجو، أو أمسكه قدام وجهي بايدي وألاعبه، أستبدل له الملابس في غياب أمه، أغسله.. هذه أشياء بعاني منها كتير".

رفع عينيه للسقف وكأنَّه حبس دموعًا أرادت مفارقة العين، وانتهى لقاؤنا.

حينما تغادر حوارًا مع بطل كـ"نضال" فلا شك أن كومة مشاعر وأمل وتحدٍّ قد تجددت بداخلك، تحفزك لمواجهة الحياة وقسوتها.