فلسطين أون لاين

في الحديقة التكنولوجية يُشبِع الكفيف "مؤنس" طموحه مدرِّبًا للإنجليزية

...
الكفيف مؤنس (أرشيف)
غزة/ هدى الدلو:

على مدار سنوات طويلة استطاع أن يحفر نفقًا كانت بدايته مظلمة، لكنه أنار له العتمة التي ولد فيها باجتهاده وتفوقه، سواء في مرحلة الثانوية العامة التي حصل فيها على معدل 98.2%، أو في دراسته الجامعية التي تخرج فيها بامتياز. دفعه طموحه وشغفه لقطع عشرات الكيلومترات من مدينته قلقيلية إلى مدينة رام الله، ليكون مدربًا لعدة دورات في اللغة الإنجليزية لطلبته في الحديقة التكنولوجية ببلدة بيرزيت.

الشاب مؤنس نزال (22 عامًا) من سكان مدينة قلقيلية، تخرج من جامعة بيرزيت تخصص اللغة الإنجليزية وآدابها والترجمة، يعمل حاليًا مدربًا حرًا للطلبة الجامعيين إيمانًا منه بأهمية تلك اللغة لهم في التواصل، والخروج إلى سوق العمل، وتنمية الجانب الثقافي.

منذ ولادته لاحظ الأطباء مشكلة صحية في عينيه، وهي ارتفاع شديد في ضغط العين؛ ما استدعى لنقله إلى غرفة العمليات، لتكون البداية وليست النهاية في التنقل بين العديد من المستشفيات الداخلية والخارجية لإنقاذ بصره من فقدان كلي.

يقول نزال لصحيفة "فلسطين": "لا أخفي عليكم مشاعر الحزن التي نقلت لي من أهلي، لكونهم ينتظرون قدوم طفل سليم ومعافى، ولكن كان لديهم إيمان قوي بأني سأكون شيئًا ما في المستقبل".

في طفولته لم يكن فاقدًا للبصر كليًّا، حيث كان يستطيع رؤية بعض الألوان والملامح العامة للشارع وليس الأشخاص، كان يشعر بأن وضعه مختلف عمن سواه، فترك ذلك أثرًا في نفسه حتى مرحلة الالتحاق برياض الأطفال.

يضيف نزال: "ألحقني والدي في روضة برام الله خاصة بالمكفوفين، شعرت حينها براحة، لكوني أتعامل مع من هم من ذات فئتي، ولكن بحُكم بُعد الروضة عن مكان سكني، كنت لا أعود للبيت إلا مرة كل أسبوع أو أسبوعين، متحملًا مشقة البعد عن الأهل بهدف التعليم".

بقي على الحال ذاته حتى الصف التاسع، يتلقى التشجيع والدعم في اليوم الذي يزور فيه أهله، وكل عام كان يحوز المركز الأول، إلى جانب مشاركته في مسابقات خاصة بالقرآن الكريم على مستوى مديرية رام الله، والإذاعات المدرسية ونشاطات أخرى خارج المدرسة.

وحين التحق بمدارس الثانوية الحكومية كان قد فقد بصره كليًا، متابعًا: "كان تحديًا كبيرًا بل ضخمًا، بعد أن كنت في مدرسة مخصصة ومهيئة للمكفوفين، أصبحت في مدرسة لا يوجد فيها سوى مكفوفَين، فضلا عن أعداد الطلبة بالصف، كان ذلك بمنزلة نقلة عاطفية ونفسية ومطب حاولتُ تجاوزه بكل قوة بمشاركات إذاعية، حتى وصلت لامتحان الثانوية العامة فقدمته بطريقة تكنولوجية، وكسرت القالب التقليدي المعتاد للطلبة المكفوفين بحصولي على المركز الأول على محافظة قلقيلية 98.2%".

حبه للغة الإنجليزية دفعه إلى اختيار التخصص، إضافة إلى توافر فرص عمله في السوق المحلي، مشيرًا إلى أنه قبل التقدم لامتحان التوجيهي أجرى تقصيًّا لمعرفة وضع الكفيف في الجامعات الفلسطينية، فاختار بيرزيت لكونه اعتاد هواءها ورائحتها وجبالها وألفها منذ طفولته.

أما الحافز الثاني لالتحاقه ببيرزيت، فهو مكتب ذوي الاحتياجات الخاصة في الجامعة، الذي وصفه بأنه "فريق من المتطوعين" الذين يقوم أساس عملهم على العطاء دون مقابل.

يقول نزال: "يعمل هذا المكتب بالاستناد إلى مجموعات تخصص لكل طالب من طلبة ذوي الاحتياجات الخاصة الملتحقين بالجامعة، فلكل طالب صديق يرافقه منذ بداية التحاقه بالجامعة، ويساعده في كتابة امتحاناته وواجباته وطباعة الكتب، وحتى يسيروا معه في داخل الحرم الجامعي".

إنسان مش آلة

بعد تخرجه بسبعة أشهر عمل على استثمار وقته، والتحق ببرامج للمشاريع الريادية والتعليم المستمر لإعداد المعلمين، محاولًا إقحام نفسه ليستفيد ويُفيد المجتمع سواء على مستوى المهارات أو التواصل، وبات مدربًا للغة الإنجليزية لمن هم في جيله.

لم يهب نزال الوقوف أمام المتدربين أو تراوده مشاعر التوتر خاصة أنه عنصر فعال وتولى رئاسة نادي اللغة الإنجليزية في جامعته؛ ما دفعه ليكون طليق اللسان ويكسر الحاجز مع الجمهور، فخاض التجربة وتجاوز المرحلة.

ويؤكد نزال أن هناك الكثير من المشكلات التي يمكن أن يواجهها أي كفيف، "وخلف هذه الإنجازات إنسان مش آلة، فالأمر مرهق ماديًا وجسديًا، خاصة أني حشري وأحب أن أدخل في المعترك".

ورغم صغر سنه استطاع أن يجد لنفسه اسمًا وفرصة ليكون مدربًا، فقد ألفه الطلبة، خاصة أنه لا يتعامل معهم بصفة أستاذ وطالب، وإنما صديق ابتعد عن النظام التجاري الذي تتعامل به المراكز التعليمية والتدريبية.

وعن طموحه يقول نزال: "أحلم أن يكون لي بصمة، وصاحب تأثير، وأنقل رسالتي ورسالة كل كفيف بأنه قادر على خوض غمار التغيير، ودراسة الماجستير في علم اللغويات".

ويذكر أن الحديقة التكنولوجية هي عبارة عن مبنى أنشئ بدعم من الحكومة الهندية لدعم ومتابعة الرياديين، وكان قد تقدم لهم بطلب لإعطاء الدورات في اللغة الإنجليزية وتم قبوله، ويمثل بيئة داعمة ومساندة للابتكار والإبداع، للرياديين، وأصحاب الأعمال الحرة، ورجال الأعمال، والطلبة والباحثين بمرافقه المختلفة.