كثيرة هي القضايا التي تستحق التوقف في ملحمة الأسرى الستة التي احتلّت عناوين الأخبار طوال الأسبوع الماضي، وستبقى كذلك ما داموا طلقاء، فيما ستجد مكانها في كتب التاريخ كمحطة مهمة؛ أيا يكن المسار التالي.
لا داعي للتوقف طويلا عند جانب في القضية، يتعلّق بعشاق نظرية المؤامرة؛ إن كانوا من أهل النيّة الحسنة، أم من أولئك الذين يكرهون المقاومة وأهلها، فضلا عن كراهيتهم للإسلاميين بكل ألوانهم، لا سيما أن خمسة من الأسرى، هم من عناصر حركة "الجهاد الإسلامي"، لكن لا بأس من القول إن العملية ليست الأولى من نوعها في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني، إن كان في داخل فلسطين أم في لبنان (سجن أنصار)، وإن كان بالإمكان القول إن العملية الأخيرة هي الأكثر إثارة تبعا لطبيعة السجن الحصينة، بجانب تطور أدوات الرصد التكنولوجية الحديثة.
هي ليست الأولى على صعيد إهانة قوة العدو وجبروته، فقبلها محطات لا تُحصى في الضفة والقطاع خلال عقود من الصراع. ألم يكن الاحتفاظ بالجندي شاليط في قطاع غزة المكشوف والمراقب على مدار الساعة لسنوات، وفرض صفقة تبادل عظيمة، واحدا من تلك الانتصارات العظيمة، بجانب محطات نوعية لا تحصى في تاريخ الصراع؟!
أيا يكن الأمر، فهؤلاء الرجال الذين كانوا جزءا من ملحمة المقاومة التي تجسّدت من قبل في جنين ومخيّمها، وفي "انتفاضة الأقصى"، وبعد ذلك في حروب المقاومة في قطاع غزة، وما صنعته من إنجازات على صعيد التصنيع، مع بناء ما يشبه مدينة تحت الأرض.. هذا الشعب يمكن أن يصنع معجزات أخرى، لا سيما من قبل رجال محكومين بمؤبدات، ويتواجدون في السجون منذ زمن بعيد، ويمكن أن يفكروا ويحسبوا حساب أدق الاحتمالات.
لعل الجانب الأبرز الذي يعنينا هنا في هذه السطور، إنما يتمثّل في دلالة العملية على الصراع والقضية برمتها؛ هي التي جاءت في توقيت لافت أيضا، ولا شك أنه كان مقصودا من قبل الرجال (أعني رأس السنة العبرية الذي يحلّ في السادس من أيلول من كل عام، ومعروف كعيد)، سواءً كان مقصودا، تبعا لانشغال الغزاة، أم بهدف تذكيرهم بأن وجودهم على هذه الأرض مؤقت.
الجانب الذي نتحدث عنه هو ذلك المتعلق بالخيار أو المسار الذي أعلنت العملية انتصاره، ألا وهو خيار المقاومة، ومن ثم انحياز جماهير الشعب الفلسطيني إليه.
لقد كانت العملية نصرا جديدا للشعب الفلسطيني، على مرمى 4 شهور من انتصار آخر مثّلته "انتفاضة القدس"، ومعركة "سيف القدس"، وما شهدته تلك المرحلة من تحولات عامة تمثّلت في استعادة القضية الفلسطينية لألقها ولتفاعل أحرار العالم معها، مقابل المأزق الذي عاشه ويعيشه الكيان الصهيوني على كل صعيد.
لقد جاءت العملية لتمنح خيار المقاومة ورموزه زخما جديدا، بتأكيد قوته وبأسه من جهة، وبتأكيد انحياز الشارع الفلسطيني العارم إليه من جهة أخرى، فيما كان أصحاب الخيار الآخر؛ أعني "التنسيق الأمني المقدّس" مع العدو، يعيشون مأزقهم الذي أدمنوا عليه، تماما كما أدمنوا العار، ولذلك لم يكن غريبا أن تتزامن العملية مع اتصال صاحب نظرية "تقديس" التعاون الأمني (عباس)، مع رئيس "الكيان" لتهنئته بالسنة العبرية الجديدة، في ذات الوقت الذي كان كرّر فيه أن لا مصالحة مع "حماس"، إلا بعد اعترافها بقرارات ما يُسمى الشرعية الدولية، كأن اعترافه ومن سبقه بها، كان فعلا عظيما، ولم يكن مجرد قفزة حمقاء في الهواء، بدليل أن الأرض التي قالوا إنهم وقّعوا "أوسلو" للحفاظ على ما تبقى منها، صارت برسم الاستيطان والتهويد أكثر من ذي قبل.
وفي حين نكتب هذه السطور، والاحتلال يعيش المهانة في أوضح تجلياتها بسبب العملية، ويزجّ بآلاف الجنود لمطاردة الأبطال، مع خشيته من تداعيات استشهادهم؛ ممثلة في "حرب طاحنة مع قطاع غزة"، وفق تقديرات جيش الاحتلال، فإن أي سيناريو يمكن أن يُكتب للأبطال؛ لن يغير في حقيقة الملحمة التي ستبقى واحدة من محطات إذلال هذا العدو، تمهيدا لكنسه من فلسطين، وهو الأمل الذي لن تطفئه أصوات من أدمنوا العار ويسيرون من تيه إلى تيه، ولا من يطبّلون لهم، ممن تأكلهم عقلية "القبلية الحزبية"، ولم يجعلوا فلسطين بوصلتهم الحقيقية.
سلام على من يصنعون ملاحم البطولة، والعار لمن "يقدّسون" التعاون الأمني مع العدو، ولمن يمنحونهم الشرعية أو يبرّرون لهم ما يفعلون.