فلسطين أون لاين

شقيقتها تسرد ذكريات "حلوة" غيبها السجن

إسراء جعابيص.. شمعة فرحٍ أضاءت سماء الأطفال والعائلة

...
غزة/ يحيى اليعقوبي:

كانت تضج بالحياة بالأمل، وجمالًا.. تبهجُ قلوبَ الأطفال عندما ترتدي بنطالًا أحمرَ تكسره خطوط بيضاء، وقميصًا أبيضَ كصفاء قلبها، وربطة عنق حمراء كبيرة، مع قبعة ملونة، وأنفًا أحمرَ كبيرًا في حين تخفي ملامح وجهها بلون أبيض يتوشحه الوردي.

بتلك الهيئة كانت تتنكر إسراء جعابيص وتظهر أمام الأطفال بشخصية "سوسو" المهرج، لتطلُّ عليهم بابتسامة عذبة بعدما تنفخ وجنتيها وتنادي بصوت خشن: "أيها الضفدع أخبرني، لماذا أنت كئيب؟!"، فلا يملك الأطفال سوى الضحك المتواصل أمام حركاتها.

ربما قرأتم كثيرًا عن إسراء التي ألصقت بها تهمة محاولة قتل جندي إسرائيلي إذ قدَّر المولى عز وجل أن تتعطل مركبتها في 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2015 على بعد 500 من حاجز عسكري إسرائيلي عندما كانت في طريقها إلى مدينة القدس المحتلة قادمة من أريحا، فانفجرت وبحادث عرضي أسطوانة غاز كانت تقلها بسيارتها. ومع الانفجار تلاشت أصابع إسراء بفعل حروق التهمت 50% من جسدها. 

لكننا هذه المرة سنعرض الجانب الآخر من حياة إسراء التي دعت أمها بأن يعوضها المولى بها عن طفلة حملت اسمها، فوقع في أمر الله ما أرادت، "هي من الناس الأنيقة، ملتزمة جدًّا في الجوانب الشرعية"، تقول شقيقتها منى.

ذكريات حلوة

تلك الفتاة المعروفة بين شقيقاتها بملاحقة الموضة وانتقاء أجمل الملابس، أنيقة المظهر، حولت منزلها لوحةً فنية بعد أن وضعت موهبتها في الرسم وشغفها بالتطريز والمشغولات اليدوية في كل ركن فيه، مغلقة أبوابَ قلبها أمام الحزن الذي طالما أخرجت الآخرين منه، ترفض أن ترى دموعهم، لا تجد اليوم من يمسح أوجاعها، يلاطمهم الشوق والحنين، تقبع في حضن الألم ويرفض السجان علاجها.

وتضيف: "كنت أتعجب من حرصها على عدم الانكشاف على الأطفال الصغار دون سن الإدراك، ولما كنت أقول: هدا ولد صغير! ترد: الصغير يكبر"، مشيرة إلى أن هذا الالتزام صاحبه حب ملاحقة الموضة بما يناسب لباسها الشرعي حتى لو تجاوز ثمنه السعر المعقول.

تستحضر منى البهجة التي كانت تحضرها إسراء إلى البيت حين تشتري الملابس: "كانت حينما تأتي إلى البيت تفرد كل مشترياتها أمامي، فمرة أعجبني قميص اشترته، فإذا بها تضعه أمامي رافضة ارتداءه (...) إسراء شخصية معطاءة مستعدة للاستغناء عن أي شيء، لديها روح جميلة، منتمية لعائلتها، إسراء كانت من الداعمين لي في حياتي، ورغم حالي الميسور كانت دائمًا تغمرني بالهدايا دون مناسبة، حنونة على أولاد العائلة".

كانت إسراء تقلب الموقف حين تدخل على أي اجتماع للعائلة وترى "الكشرة" قد وضعت بصمتها على وجوه الحاضرين، تضيف منى بعد أن أطالت الصمت متممة حديثها بتنهيدة: "الواحد بتحسر على هديك الأيام!".

بيت العائلة كان مسرح إسراء لأداء البروفة قبل أي عروض تقدمها للأطفال في فعاليات ترفيهية عديدة تتطوع فيها، يعرفها الأطفال بـ"سوسو المهرج"، يشد منى موقف آخر وقد غازلتها ضحكة عابرة: "مرةً أحضرت إسراء لباس مهرج، وألبست كل الأطفال، ولم يبقَ إلا شارب فوضعته لي".

هدم منزل عائلة إسراء ثلاث مرات في نهاية التسعينيات وفي بداية الألفين، والمرة الأخيرة عام 2016م، تشعر بصوت فخر منى بشقيقتها وهي ترحل لتلك اللحظات: "كانت إسراء تبلغ من العمل ثلاثة عشر عامًا في الهدم الثاني وتساعد أبي في بناء المنزل وهي تنقل الحجارة والحصى، كنت أراها تشد الحجارة من يد أبي: "هات عنك يابا وتساعد عمال الباقر، فرغم أننا تسع أشقاء (أربع بنات وخمس ذكور) لكن في تلك المرحلة كان أكبر إخوتي طفلًا وكانت هي سندًا له".

لم تستطِع منى كتمان ضحكة أفلتت منها: "كنا نلقبها بـ"أبو علي" لشدة قوتها".

لوحة فنية

ذات مرة، ذهبت إسراء ومنى إلى أحد الينابيع، فحملت إسراء صخرةً، فجن جنون شقيقتها: "يا بنت الحلال شو بدك فيها تحمليها، المسافة قدامنا طويلة"، إلا أن إسراء أصرت على حملها ووعدتها بانتظار المفاجأة: "بكرا بتشوفي، وبعد أيام أرسلت لي صورة وقد تحولت الصخرة للوحة فنية ينساب عليها الماء كشلال بين الأشجار".

"امتلكت حسًّا فنيًّا"، تتحدث "منى" عن مدى عناية "إسراء" ببيتها الذي حولته لوحة فنية، "فبعدما تتجاوز الباب إلى الداخل، تجد طاولة زرقاء قديمة أعادت تشكيلها، وأباريق، وسلالًا خشبية على الجدران، وتطريزًا، ومشغولات من البلاستيك، إضافة لذلك كانت تحب الدراسة والمذاكرة بتخصصها التربية بساحة الحرم، ودائمًا تحث النساء على حلم أكياس فارغة لتنظيف الساحة.

ورغم أسرها أصرت "إسراء" على ممارسة هواية المشغولات اليدوية وتحدت ألم الإصابة والبتر، إذ تقول شقيقتها: "دائمًا أنظر إلى روح إسراء وليس لتغير شكلها، وقد أخبرتني أسيرة محررة عن موقف حدث في سجن هشارون، إذ دخلت أسيرة السجن وظلت تبكي، فتدخلت إسراء بفكاهة لقطع ستار دموعها: "قومي أنت مدمرة"، وعرضت يديها المحروقتين مبتورتي الأصابع وهي تضحك: "أنا شو أحكي انتهيت، وقفي دموع".

أما معتصم ابن إسراء الوحيد فمنعه الاحتلال من زيارة أمه سنة وشهرين، وفي زيارته الأولى لها قدمت له ثيابًا بهلوانية على شكل "نمر" مع قناع رأس أخفت به الحروق التي أكلت وجهها ويديها، وبدأت تجري حركات بهلوانية حتى فاجأها: "شيلي القناع بعرف أنه انحرق وجهك.. تقلقيش بحبك".

تقول منى التي شهدت على تلك الزيارة: أطال معتصم النظر في وجه أمه وبرق الدمع في عينيه وابتسم، فضمته إلى صدرها (...) ومن الأشياء الجميلة التي تجريها إسراء التي يبلغ طولها 172سم؛ أنها توقف معتصم في كل زيارة على حجرٍ وتراقب نموه، لكن لا أعرف كيف تحسب طوله في الهواء".