بين اللاعب والراعي والمتفرج هناك فواصل باتت تنهار لتختلط الأوراق ويعاد ترتيبها من جديد.
في الدوحة وأنقرة مطبخ يحب نكهته كل أطراف السياسة؛ وفي (تل أبيب) وواشنطن رائحة هزيمة لفكرة السيطرة، فجواسيسهم ينهارون في المنطقة، والانعكاس بات خطِرا وما زال المطبخ ذاته الذي يحاول إرضاء الجميع.
غير أن ثمة هزات سياسية قادمة وقريبة جدا ستنسف تقديرات أمنية في الإقليم ليست أقل سوءا على الغزاة من تلك التقديرات التي حولت الإجلاء من أفغانستان إلى جحيم وتخبط.
سلطة الحكم الذاتي في فلسطين، التي بُنيت على فكرة أمريكية إسرائيلية تتلقى ضربات كبيرة تأخذها إلى غرفة الإنعاش في محاولة لإبقاء جوهرها الأمني قائما؛ وبين الانسداد السياسي والهزات المرتدة من أفغانستان وبين سيف القدس وغياب الانتخابات وقتل وتعذيب وسحل النشطاء، وحالة التخبط في الدول العربية المجاورة وزخم الأحداث؛ تحاول (إسرائيل) أن تقف على أطلال أمنها الهش من خلال تدعيم سلطة أوسلو ببعض امتيازات علها تكون مسعفا أو جهاز تنفس اصطناعيًّا لها.
غير أن داعم الاحتلال الرئيس -وهو الأمريكان- في مشهدهم المهين والمهزوم هناك حيث جبال قندهار وتورابورا وكابول؛ وطائراتهم التي سقط منها جواسيسهم الذين قالوا لهم لن تخافوا ما دمنا معكم، فإذا بحتفهم على يد سيدهم.
هذا انعكاس كبير على الأنظمة العربية التي تواجه حركات المقاومة بشراسة وتضع المعارضين لها في سجون وتعدمهم، كما أنها خطورة كبيرة على مشروع أوسلو اللعين الذي بقي يعيش في مستشفى المساعدات الأمنية والمالية الأمريكي والاحتلالي لإبقاء القضية مهدورة.
الآن وبتغير اللاعبين ومواقعهم وبقاء مطبخ فيه يرى الجميع النكهة التي يحب؛ تتغير اللغة والسياسة والمنهجية. وهنا مساران لا ثالث لهما أمام المنطقة:
أولا: سيتوجه جواسيس وأنظمة قمعية إلى معادلة الارتماء في حضن (إسرائيل) وأمريكا بالتزامن مع قمع عنيف ومتصاعد للمعارضة في محاولة لمنع أو مواساة أنفسهم بألّا يتكرر مشهد أفغانستان، وهذا سيبدأ بالتصاعد في المرحلة المقبلة، ولأنهم أدوات وحسب فإنهم لن يخططوا بقدر ما يفكرون بأنهم يحاولون ألا يروا المشهد يتكرر، وهذا الغباء سيقودهم لهذا السيناريو، ولأنهم في مربع الرعب والخوف لأن سيدهم انهزم بعد ٢٠ عاما من القتل والقصف والترهيب؛ سيكون هذا موقفهم وسينسون أن أفغانستان صورة طبيعية سبقتها لبنان والجزائر بهروب الحركيين وفيتنام التي ركل الأمريكان جواسيسهم بالقدم والطائرات تقلع ولن يكون آخر مشهد في كابول.
ورغم ذلك سيكون قد تغير مزاج الدول الكبرى وأدخل المطبخ السياسي معادلة جديدة مبنية على احترام المعارضة وتلبية حقوقهم وعدم المساس بسيادتهم والدخول في حوار حقيقي مبني على الندية وليست التبعية، فكل تقارير التحليل السياسي الأمريكي تشير إلى أن الهزات السياسية الارتدادية في الشرق الأوسط ستكون على حساب جواسيس (حلفاء) أمريكا المسيطرين لصالح المعارضة؛ والفرق ندية لا تبعية.
ثانيا: ستدخل بعض أنظمة العربدة والجواسيس في إطار تحسينات وتلطيف للأجواء وتغييرات شكلية في محاولة لإرضاء المعارضة وحتى أمريكا، وستكون لغة خطابها عن الحقوق والديمقراطية والإنسانية والشفافية ومحاربة الفساد؛ وهذا كله لن يلغي المشهد ولن يمنع الهزات الارتدادية القادمة والقريبة جدا في ملفات الشرق الأوسط.
وعليه فإن تحولات مواقف ضبط إعدادات وتوقيتات جديدة، تغير أولويات ومتابعة وتغير مسارات؛ والأهم من تلك المرحلة إن لم تكن أجبرت سيدهم "أمريكا" على التغيير في اللغة والجهات المخاطبة فإنها ستجبرها على وقع الهزات القادمة.
بات من الواضح أن لغة القوة والوصاية والتضليل الإعلامي الذي استخدم لعقدين من الزمن في أفغانستان وباء بهزيمة تاريخية مذلة له ما بعده على جغرافيا الإقليم وبوتيرة ستجبر من كان سنده أمريكا على الانحناء أمام عاصفة قادمة.