اختتمت في العاصمة العراقية "بغداد" السبت الماضي فعاليات قمة بغداد للشراكة والتعاون، التي شارك فيها كل من أمير قطر وملك الأردن ورئيس مصر والرئيس الفرنسي، ورئيس وزراء كل من الكويت والإمارات العربية المتحدة، ووزير خارجية كل من تركيا والسعودية وإيران.
وفي مؤتمر صحفي بختام أعمال القمة، أكد وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين أن "بغداد استطاعت أن تجمع دولاً كانت بينها خلافات ومشاكل كبيرة"، مشدداً على أن استقرار العراق يعني استقرار المحيط الإقليمي والمنطقة بأكملها.
في توقيتٍ بالغٍ الحساسيةِ تعيشه البلاد مع دنو موعد إجراء الانتخابات التشريعية المقرر إجراؤها في العاشر من شهر أكتوبر/تشرين الأول القادم من العام الجاري، واقتراب موعد الانسحاب العسكري الأمريكي نهاية العام، فإنه يحسب للحكومة العراقية تنظيم قمة استثنائية جمعت الأضداد على طاولةِ حوارٍ واحدة.
وهو ما أشار إليه وزير الخارجية العراقي، ممَّا يجعل من قمة بغداد الأخيرة مهمةً من حيث السياقات التي تعقد فيها، والتي لا بد من الإحاطة بها لمعرفة منطلقاتها.
فهي تأتي في سياق رغبةٍ أمريكية محتملةٍ في إعادة اندماج العراق مع محيطه العربي. وهي محاولة لإيجاد نوعٍ من التوازن في نفوذ الأطراف المؤثرة فيه، وخصوصاً في ما يتعلق بنفوذ الجانب الإيراني، ومن المرجح أن تكون الرغبة الأمريكية منطلقةً في ذلك من تقديرها لوجود فرصةٍ سانحة في الوقت الحالي لإعادة رسم خريطة علاقات عراقيةٍ وإقليميةٍ جديدة، بالتزامن مع المتغيرات الجارية في المنطقة لإمكانية لعبِ دورٍ ضاغطٍ على صانع القرار الإيراني من خلال المفاوضات الجارية بين الجانبين والمتعلقة بالملف النووي الإيراني.
كما أن هذه القمة تأتي في سياق تحقيق مكاسبَ سياسية للأطراف المشاركة فيها من خلال إمكانية لعب بغداد لدورِ نقطة الالتقاء في ما بينها، وهو ما قد تحقق فعلاً من خلال اللقاءات الثنائية التي عُقدت على هامش أعمال القمة، والتي جمعت أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد بنائب رئيس الوزراء الإماراتي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم من جانب، وبالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من جانبٍ آخر. وهي ترجمة عملية للمكاسب السياسية المتحققة على سبيل المثال، فضلاً عن أهميتها في تهدئة التوتر بين أطرافٍ مشاركةٍ أخرى، وخصوصاً تلك التي بينها صراعات مباشرة كما هو الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وبين إيران والمملكة العربية السعودية.
بالإضافةِ إلى ذلك، فإن القمة تأتي في سياق تنامي الرغبة في إيجاد نوع من الهدنة بين دول المنطقة، وذلك بالتزامن مع تراجع الوجود العسكري للولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يعني حاجة هذه الدول إلى إيجاد نمط من التعاون في ما بينها، وقد يكون العراق الطرف الأنسب في هذه المرحلة من أجل لعب هذا الدور، في محاولة لإيجاد مقاربةٍ جديدةٍ لعلاقاتٍ تنظم الخلافات وتبتعد بها عن مرحلة الصراع.
على الجانب الآخر، فإن دعوة الحكومة العراقية برئاسة السيد مصطفى الكاظمي لعقد هذه القمة تنطلق من رغبتها في تحقيق عددٍ من الأهداف، والتي من أهمها رغبتها في تحجيم التأثير السلبي للصراع بين الأطراف المتنازعة في العراق، وفي مقدمة هذه الصراعات الصراع المستمر ما بين طهران وواشنطن خصوصاً بعد اختلال كفتي التوازن بينهما والذي تصاعد في الفترة الماضية بشكل كبير، وذلك عبر إيجاد معادلة توازن إقليمي جديدة في المنطقة يكون لها انعكاسات إيجابية على الداخل العراقي، بمعنى قيام الحكومة العراقية باستثمار هذا الدور المحوري في علاقاتها الخارجية وما يترتب عليه من إيجابيات من أجل إيجاد استقرار داخلي.
كما تأتي القمة في إطار إمكانية أن تلعب الحكومة العراقية دوراً في أن تكون نقطة التقاءٍ بين الأطراف المتنازعة في المنطقة، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية العراقي بأن "العراق كان وسيطاً بين دول مختلفة في المنطقة، ولعب دوراً دبلوماسياً مهماً" وهو ما يعني ارتفاع أسهمه في المرحلة القادمة. بالإضافة إلى ذلك، فإن جمع الدول الخليجية مع دول ذات ثقل ومؤثرة إقليمياً مثل تركيا وإيران إلى الطاولة نفسها والتي بعضها في حالة صراع مفتوح، كما هو الحال مع إيران والمملكة العربية السعودية، سيكون إنجازاً دبلوماسياً في حد ذاته لحكومة السيد "الكاظمي" التي استضافت جولات من المفاوضات بين البلدين كما أعلن عن ذلك سابقاً.
ومن المرجح أن يمثل تعزيز التعاون الاقتصادي بين العراق وبين الدول المشاركة واحداً من الأجندة الهامة للمؤتمر، انطلاقاً من رغبة الحكومة العراقية في تعزيز الاستثمارات المالية لهذه الدول فيه، وهو ما يعزز إمكانية إيجاد تفاهمات معها وتنامي فرصة بغداد في لعب دور أكبر في المنطقة، خصوصاً إذا ما استثمرت بغداد هذه الفرصة وعملت على توفير الحد الأدنى من الأمان، وعملت على مكافحة الفساد المستشري لخلق بيئة استثمارية قادرة على الاستفادة من هذه الفرصة.
وعلى الرغم من أهمية انعقاد هذه القمة في تحقيق ما أشرنا إليه من تهدئة بين دول المنطقة واستقرار داخلي للعراق، فإن إمكانية الحديث عن نجاحها في تحقيق هذه الأهداف ما تزال مبكرة، وذلك بسبب وجود خلافات عميقة ومصالح متضاربة بين بعض الدول المشاركة، فضلاً عن وجود صراعات ما زالت مستمرة بين بعضها الآخر في العراق.
فبالنسبة لإيران، فإن استقرار العراق يعني حكومةً تتماشى مع مصالحها سياسياً، في حين أن استقرار العراق بالنسبة للسعودية والدول العربية الأخرى يعني بشكل أساسي دولة مستقلة عن نفوذ طهران، وهو ما يديم استمرار العراق كساحة للصراع بين الجانبين.
كذلك الحال بالنسبة للصراع ما بين الولايات المتحدة وإيران في العراق، حيث تسعى طهران إلى إنهاء الوجود الأمريكي فيه من خلال الضغط عليه بأي شكل من الأشكال، وعلى الرغم من إعلان واشنطن عن نيتها سحب قواتها المقاتلة في العراق بنهاية العام الجاري، فإن كيفية تنفيذ هذا القرار وتوقيتاته لم تتضح بعد، وهو ما قد يعني استمرار التوتر بين الجانبين في حال عدم التزام الولايات المتحدة به.
من جانبٍ آخر، فإن عدم قدرة الحكومة العراقية على القضاء على تنظيم PKK الإرهابي بشكل نهائي والذي يتخذ من منطقة كردستان شمال العراق منطلقاً لتنفيذ هجماته على تركيا، سيؤدي إلى استمرار حالة من عدم الاستقرار السياسي في العلاقة بين بغداد وأنقرة، وهو ما يتطلب المزيد من العمل والتنسيق حتى يتم التوصل إلى إيجاد شراكة حقيقية مع دولة إقليمية مؤثرة مثل تركيا، وقد عبر وزير الخارجية التركي عن ذلك بتأكيد رفض أنقرة لأي وجود للتنظيم الإرهابي على الأراضي العراقية.
كما أن حضور "فرنسا" اللافت حديثاً كلاعب جديد في المشهد العراقي، والطامعة في الحصول على مشاريع مربحة في العراق، خاصة في مجال الطاقة، أملاً في ملء الفراغ الذي خلفه رحيل الشركات الأمريكية والبريطانية، من خلال رئيسها "ماكرون" وزياراته المتكررة إلى بغداد وتوجهه مؤخراً إلى محافظة نينوى لزيارة الكنائس فيها، قد يكون سبباً آخر من أسباب إيجاد حالة توتر جديدة في العراق مع دول مجاورة خصوصاً في ظل العلاقة الباردة بين باريس وأنقرة، والحديث عن دعم قدمته باريس في فترة ماضية إلى تنظيم PKK الإرهابي.
أخيراً، وبما أنه من الصعب للغاية التوفيق بين هذه المصالح السياسية المتضاربة، فمن غير المرجح أن يحقق المؤتمر أهدافه النهائية، إلا إن لقاء هذه الأطراف على طاولة واحدة وإيجاد مناخ مناسب لجلوس قادة وممثلي الدول المشاركة، من المحتمل أن يكون خطوة باتجاه تهدئة التوتر في المنطقة، ومحاولة لحلحلة المشاكل ومن ثم إيجاد حلول لها مستقبلاً، كما أنه سيساهم في تغيير الصورة النمطية عن العراق وإمكانية تحول دوره من ساحة معركة إلى جسر للتعاون والشراكة.