لقد حفلت أسفار التاريخ بممالك وإمبراطوريات سادت ثم بادت واستمرت عجلة الحياة تطيح بنظم استبدت وقهرت شعوبها، واستعمارات احتلت وجارت ونهبت، ولكنها وحين يحين الحين تنهار فتذروها الرياح .
إن النصر فيما تقدم هو لحظة يقرر الشعب المواجهة وتتوفر لديه الإرادة والوعي والاستعداد للتضحية من أجل إنجاز هدفه الأسمى في الحرية والاستقلال .
لقد احتل البريطانيون أفغانستان، تلاهم السوفيت ومن ثم الأمريكيون ولكنها أرض تلفظ الغزاة، فكان لها ما أرادت، هذه الدروس نراها اليوم بأم العين شاهدًا أمامنا، وتمتثل في التداعي المتصاعد لكيان الصهاينة وآخر احتلال يعرفه الكون، نظام تتقاذفه التناقضات ويحمل بذور فنائه، وقد بدأ حلفاؤه يضيقون به ذرعًا، وستؤكد الحياة أنه سيصبح عبئًا ثقيلًا عليهم .
هذا ما واجهه النظام العنصري المتوحش في جنوب إفريقيا الحرة اليوم، وهو الذي أقامته "بريطانيا العظمى" التي كانت لا تغيب عنها الشمس في مساء يوم غاب عنها الضمير الإنساني في عام 1947، وتشاء الأقدار أن تقوم بريطانيا بالجريمة النكراء ذاتها وفي العام نفسه بالدفع لتمرير قرار تقسيم فلسطين في "عصبة الأمم" لإنفاذ مجزرتها السياسية وعد بلفور إلى جانب تقسيم الهند أيضًا .
لندن العاصمة البريطانية صاحبة نظرية "فرّق تسد"، التي رعت تهجير جل الشعب الفلسطيني من أرض أجداده وسلّحت العصابات الصهيونية وكانت وراء المساعدة في سلب الأرض، وأكثر من مئة مجزرة مروعة بحق المدنيين الفلسطينيين العزل راح ضحيتها الآلاف من الشهداء والجرحى، لندن هذه يخرج من صلبها اليوم أكثر من ربع مليون بريطاني إبان معارك" سيف القدس" لينددوا بالجرائم التي ارتكبها جيش الغزاة الصهاينة في قطاع غزة العزة والكرامة. كما تظاهر أكثر من مليون ونصف من البريطانيين أيضا في أكثر من أربعين مدينة كبرى يقول للصهاينة: كفى!
هذه التحولات الشعبية الكبرى تجري اليوم في بقية القارة الأوروبية وفي الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا وأمريكيا اللاتينية وبالطبع في كل آسيا وإفريقيا.
وستأتي اللحظات التي يجري فيها عزل كيان المحتلين الصهاينة في فلسطين المحتلة كما جرى حصار نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا وعزله وإسقاطه، وقد فرض ذلك فرضًا على واشنطن وأوروبا أمام صمود الشعب فيها وافتضاح طبيعة ذاك النظام الدموي .
لقد عنونت زيارة رئيس الوزراء الصهيوني نفتالي بينيت إلى واشنطن بداية للتململ الأمريكي بما قد يشكله هذا الكيان من أعباء وإحراج، خاصة أن دوره الوظيفي بدأ في التعثر خلال العقد والنصف الماضيين حين تمكن محور المقاومة من فرض خياراته في الإقليم ونجحت المقاومة الفلسطينية بتقديم نموذج في الوحدة الميدانية والصمود الأسطوري وتوحيد كل الشعب الفلسطيني المرابط وتحقيق الإنجازات الكبيرة ومراكمة نقاط قوة يعتد بها على طريق التحول النوعي في ميزان القوى واستنزاف قوى العدو وفرص التراجع عليه لجعل مشروعه ودوره في المنطقة مستحيلا بما يضع مشروع هذا الكيان أمام عد تنازلي أكيد يراه حلفاء العدو في واشنطن والغرب الاستعماري ماثلا عنيدا .
لقد حاول بينيت كما حاول من قبله نتنياهو دفع الولايات المتحدة لغزو إيران بحجة خشية أن تمتلك إيران السلاح النووي دون جدوى في الوقت الذي أكد فيه بايدن كما أكد من قبله وبالممارسة ترامب وأوباما تغليب الخيار الدبلوماسي والضغط الاقتصادي، وحاور بينيت طويلا لثني واشنطن عن العودة للاتفاق النووي مع إيران أو فتح القنصلية في القدس أو أي حديث عن دولة فلسطينية في الوقت الذي أعاد فيه بايدن تأكيد ضرورة ابتعاد بينيت عن أي خطوات أحادية تدفع المنطقة إلى حافة حرب جديدة !
وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة قد عادت لرشدها، ولكنها لغة المصالح التي دفعتها لأولويات أخرى بعيدة عن وضع ملف (تل أبيب) في المقدمة كما كان ذلك الحال منذ عقد ونيف .
ملفات تقدم الصين الاقتصادي الفلكي والعسكري والأمني وتوسع نفوذها الكوني أيضا، كذلك الصراع التنافسي مجددا مع روسيا وإمبراطورية بوتين الصاعدة وترميم ما أفسدته رعونة سلفه ترامب مع أوروبا، ملفات كبرى حرية أن تكون في المقدمة أمام الحليف "الاستراتيجي" في واشنطن وهي تتجرع كأس الهزائم المرة في أفغانستان ومأزقها مع إيران التي توثق أواصر علاقاتها مع الصين وروسيا في عالم بدأ متعدد الأقطاب لا محالة !
كل ذلك يدفع الولايات لتحسس مواطن أقدامها وتدوير أولوياتها، ونذر التغيير في المنطقة بدأت تباشيرها بالخروج من الإقليم وكما صرح الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض ان واشنطن مقدمة على الانكفاء والاندحار من العراق وسوريا بعد أفغانستان وما يثيره من رعب في (تل أبيب) خاصة أنها منّت النفس بأن يتعزز دورها بعد الخروج المذل من كابول .
تحولات جدية تبدأ الحراك في واشنطن وقد تمحورت سياسات أوباما وترامب وحتى بايدن تقول بعودة "أبنائنا الجنود" إلى الديار !لقد طالب أكثر من 100 عضو في الكونغرس الأمريكي ومن الحزبين الديمقراطي والجمهوري بوقف المساعدات العسكرية لـ "تل أبيب" وكذلك ندد 500 عضو من الحزب الديمقراطي بالدعم الكبير لها . كما أطلقت5 مؤسسات أمريكية حملة للتوقيع على عريضة لنصرة حقوق الشعب الفلسطيني ، حتى وصل الامر ايضا بالحركة اليهودية المسماة " IFNOTNOW" تطالب بايدن بزجر تل أبيب التي يجب أن لا تستمر استثناء في الخروج على القانون الدولي !! هذا ما يؤكده اليوم الشباب الأمريكي الذي خرج بالآلاف متظاهرا في ميدان "لافاييت" بجوار البيت الأبيض تضامنا مع الشعب الفلسطيني وتنديدا بانتهاكات الاحتلال الصهيوني .
لقد رصد هذه المتغيرات العميقة في المجتمع الأمريكي الكاتب رونالد لودر في "يديعوت أحرنوت" والتي جاءت في استطلاع للرأي مؤخرا بأن 34% من الأمريكيين يعتقدون بأن هناك تمييزا عنصريا في (إسرائيل) يماثل ما هو ممارس في أمريكيا وأن 25% منهم يرى بأن (إسرائيل) دولة فصل عنصري
إن ما يجري في عالم اليوم كبير ولافت ويذكرنا بما جرى في سالف الزمان، فهذا تماما ما جرى لبريطانيا وإسبانيا والاتحاد السوفيتي وألمانيا وإيطاليا وحتى دول استعمارية صغيرة ولكنها كانت شرسة كهولندا وبلجيكا، وتدور ساعة التاريخ لتطوي أيضا دولا كانت مرتبطة بتلك الإمبراطوريات والممالك وما أشبه اليوم بالبارحة .
الولايات المتحدة الأمريكية لن تكون استثناء وكذلك كيان الصهاينة الذي يرفع اليوم شعبنا الفلسطيني العظيم رايات الجهاد لكنسه مرة وإلى الأبد.