بدأت القصة بدعوة القوى الوطنية الفلسطينية إلى تظاهرة بالقرب من السياج العازل شرق مدينة غزة، تعبيرًا عن الغضب من استمرار الحصار وسياسة الموت البطيء والعقاب الجماعي الذي تنتهجه دولة الاحتلال، واشتدت وتيرته بعد مواجهة أيار (مايو) لإفقاد الفلسطينيين في غزة الشعور بالنصر.
شارك آلاف الفلسطينيين في تلك التظاهرة ووقفوا على مشارف أراضيهم المحتلة عام ١٩٤٨، وكما العادة بدأ قناصة جيش الاحتلال المتحصنون وراء السياج العازل إطلاق النار على المتظاهرين، الذين لم يمثلوا خطرًا أمنيًّا حقيقيًّا، فأصيب أكثر من أربعين متظاهرًا.
وبالجرأة المعهودة من أهالي غزة تقدم عدد من الشبان باتجاه موقع القناص المتحصن خلف الجدار، وحاولوا سحب السلاح الذي يطلق به النار على المتظاهرين، في هذه الأثناء تقدم شاب يحمل مسدسًا ووقف في مواجهة الموت مباشرةً، فأدخل مسدسه في فوهة ثقب الجدار باتجاه المكان المحتمل لوجود القناص، وأطلق رصاصتين دون أن يراه، ثم عرف لاحقًا من وسائل الإعلام العبرية أن ذلك القناص أصيب بحالة حرجة.
قطاع غزة مكان معبأ بالسلاح، لذلك من الطبيعي أن يحضر في مكان مزدحم بالجماهير بعض الذين يحملون سلاحًا شخصيًّا، وليس بالضرورة أن يكون الحادث مخططًا له، وغالبًا إن هذا الشاب قد اتخذ القرار من وحي اللحظة.
المشهد مشحون بالرمزية، فهو يمثل جرأة الفلسطيني في مواجهة الموت واقتحام الخطر، ويمثل أيضًا ندية الفلسطيني في مواجهة عدوه، فهو مع الاختلال الواضح في موازين القوى لمصلحة المحتل لا يشعر بالحماس لتبني خطاب الضعف والمظلومية، بل يستهويه خطاب التحدي والمواجهة والانتصار، والمشهد يدل كذلك على قدرة الفلسطيني الغزي تحديدًا على استثمار أقل الموارد والبحث عن أي ثقب -مهما كان محدودًا- لاختراق الجدار، في هذه الحادثة تحقق المثل الأخير حرفيًّا، فجيش الاحتلال استخلص العبر من مسيرات العودة وكسر الحصار، فضاعف تحصيناته وبنى جدارًا سميكًا ليخفي الجنود وراءه، ولم يبقِ أي فسحة للاحتكاك بين جنوده والمتظاهرين عدا ثقوب صغيرة لإطلاق النار من خلالها، هذه الثقوب الصغيرة هي كل ما احتاج له فلسطيني متسلح بالعزيمة ليرد النار منها إلى مطلقها ويصيبه.
لذلك كان المشهد عظيم الأثر النفسي، واحتفى الفلسطينيون بهذا الفعل لما رأوا فيه من معاني البطولة والفخر الوطني.
لكن هذه الحادثة كشفت أيضًا العنصرية القبيحة الطاغية في الإعلام الصهيوني.
مع أن هذا القناص استهدف في حالة مواجهة، وهو ذاته مع زملائه الآخرين من جيش الاحتلال كانوا قد أصابوا للتو أكثر من أربعين متظاهرًا فلسطينيًّا؛ الإعلام الصهيوني لم يثِر النقاش مطلقًا حول مدى شرعية إصابة هؤلاء المتظاهرين.
الهم الشاغل للإعلام الصهيوني هو كيف يسمح بنجاح الفلسطينيين في إصابة هذا القناص.
لا أحد يتحدث عن إصابة عشرات آلاف المتظاهرين، وقتل المئات منهم على سياج غزة بنيران هذا القناص وزملائه خلال السنوات الثلاثة الأخيرة.
هذا يعني أن هناك دمًا حرامًا، ودمًا حلالًا وفق المعيار الصهيوني، وأنه لا يوجد قيمة لحياة آلاف الفلسطينيين، بسبب اختلافهم العرقي والديني عن المستعمر الصهيوني.
طوال الأيام الأخيرة بعد استهداف القناص انشغل الصحفيون الصهاينة بأدق التفاصيل حول حالة ذلك القناص، وكانت الأخبار على النحو التالي:
"إصابة القناص على حدود غزة، القناص دخل مستشفى سوروكا في حالة حرجة، القناص أخضع لعملية جراحية معقدة جدًّا، والد القناص: لماذا يجب أن يذهب ابني إلى المستشفى بسبب تظاهرة؟! والد القناص يبكي ويدعو إلى الصلاة من أجل ابنه، لا يزال القناص تحت التخدير والتنفس الصناعي، والد القناص يغلق الهاتف في وجه رئيس الوزراء، أداء صلوات وطقوس من أجل شفاء القناص، والدة القناص: نتنياهو اتصل بي وبكى من أجل ابني".
هذه بعض الأخبار التي نقلتها حرفيًّا من ترجمة الإعلام العبري، هذه الاستفاضة في متابعة أدق التفاصيل وتسمية القناص باسمه وتسليط الضوء على والديه تعني إظهار القصة الإنسانية له، لكن لا أحد تحدث عن ضحايا ذلك المصاب الذين لهم آباء وأمهات وأحبة أيضًا.
الضحايا الفلسطينيون لهم قصص إنسانية أيضًا، فالذين قتلوا منهم قبل سنوات لا يزال أحبابهم يبكونهم كل لحظة، ولا يزالون يفتقدونهم في كل زاوية من زوايا الحياة، والجرحى الذين أصابهم رصاص قناصة الاحتلال لا يزال المئات منهم يعانون إعاقة دائمة، لقد تبدلت حياتهم كليًّا، ولم يعودوا قادرين على ممارسة الحد الأدنى من الحياة التي ظل ينعم بها القناص سنوات طويلة، قبل أن تصيبه العدالة الإلهية بنذر يسير جدًّا من معاناة ضحاياه.
تحويل الضحايا إلى مجرد أرقام، كما يتعامل الإعلام مع الضحايا الفلسطينيين؛ هو انتزاع لإنسانيتهم، الإحصاء بطبيعته غير إنساني، لأنه يحجبنا عن رؤية التفاصيل الثرية للخسارة التي يعنيها فقد هؤلاء، ويجعلنا نمر بأخبار مصائبهم ببلادة.
تسمية المصاب والاقتراب من تفاصيل حياته ينميان الشعور الإنساني في المجتمع، ويحمياننا من خطر التعود على إزهاق النفوس، لكن حين تكون التسمية أو التجاهل خاضعين فقط للانتماء العرقي والتصنيف الاجتماعي والديني للمصاب؛ فهذه هي العنصرية البشعة، وهي الخاصية التي تفشل (إسرائيل) دائمًا في حجبها وإخفائها عن نفسها.