من مجمل ردّات الفعل التي تواترت في (إسرائيل) في ضوء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ينبغي التوقف عند ثلاثٍ رئيسة منها، تمثلت الأولى في إعادة إنتاج "حُكم القيمة" بأن شعوب العالم الثالث ليست أهلًا للديمقراطية ولا الحريّة والعدالة الاجتماعية، بدايةً في سبيل تعزيز القناعة بأن الولايات المتحدة، وأوروبا لا قبل لهما بفهم هذه الشعوب وعقليتها وإرثها، وثانيًا بغية تأجيج الإسلاموفوبيا.
ووفقًا لما كتب أستاذ جامعي، وهو خبير بارز أيضًا في شؤون الأمن القومي، إن معظم زعماء الولايات المتحدة في العقود القليلة الماضية تنكّروا لحقيقة أن المجتمعات القبلية، وما قبل الحداثية في المنطقة، لا ترى أن الحياة الجيدة يمكن أن تترتّب على تبني قيم الديمقراطية والتسوية والسلام والتعدّدية ومساواة النساء ورفاهية الفرد وحريته، بل هي تحصيل حاصل هذيان استعادة الماضي التليد، والتعويض عن مشاعر النقص التي تراكمت خلال المواجهة الفاشلة مع العالم العصريّ، يُشار إلى أنه قبل هذا الكلام بأعوام كثيرة كتب أكاديمي إسرائيلي آخر: "لا يمكن الوثوق بالديمقراطية لمعالجة مشكلات مجتمعات مُحرّضة وجاهلة"، في إشارة مباشرة إلى المجتمعات العربية، وما زال بعضهم يذكّر كيف أن رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، بنيامين نتنياهو، جزم، لدى انطلاق ثورات الربيع العربي عام 2011، في خطاب أمام الكنيست، بأنه لا يسع من وصفهم بأنهم "سُذّج متسلسلون" فهم تلافيف السياسة في الشرق الأوسط، وبأن العرب "لا يتقدّمون إلى الأمام في اتّجاه التقدّم والرُّقي، وإنّما يسيرونَ إلى الخلف".
وشدّدت ردة الفعل الثانية على خلاصة قديمة – جديدة، أنه في كل ما يتعلق بأمن دولة الاحتلال الآن وإلى الأبد، لا يمكنها سوى الاعتماد على نفسها وقوة ذراعها العسكرية. وبموجب ما كتب أكثر من مسؤول إسرائيلي سابق ومحلّل سياسي، اهتدى بهذه الخلاصة جميع زعماء (إسرائيل)، بدءًا من بن غوريون وصولًا إلى نتنياهو، لا سيما حيال مسألتين ذاتي صلة: إقرار "الحدود النهائية" بحيث تكون "قابلة للدفاع عنها"، ما يستلزم الاحتفاظ بمواقع إستراتيجية مثل غور الأردن أو هضبة الجولان، والحفاظ على مكانة (إسرائيل) الأمنية في كل المنطقة الجغرافية بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، وفي هذا الشأن كتب أحد الساسة الإسرائيليين السابقين: "إنه من النقطة الزمنية الحالية تبدو تافهة وسطحية خطة جون كيري (وزير الخارجية الأمريكي إبّان ولاية الرئيس باراك أوباما)، التي دعت إلى إرساء أمن دولة (إسرائيل) باتفاقيات مع السلطة الفلسطينية، ومرابطة قوات طوارئ دولية من الأمم المتحدة في منطقة الحدود بين الجانبين، وتقديم ضمانات أمريكية".
وتجسّدت ردة الفعل الثالثة في تثمين "اتفاقيات أبراهام" لتطبيع العلاقات بين (إسرائيل) وبعض الدول العربية، ومثلما كتب أحد الوزراء الإسرائيليين السابقين، وهو من التيار العمالي، وضعت هذه الاتفاقيات المدماك المطلوب للكفّ عن النظر إلى (إسرائيل) أنها جذر الشرور في الشرق الأوسط، في حين أن الحدث الأفغاني ينبغي به أن يدفع نحو إقامة قوة إقليمية أمنية جديدة في هذه المنطقة لمواجهة أعداء مشتركين، جميعهم مرتبطون بحبل سرّتهم مع نظام الملالي في إيران، وتعتمد على نفسها فقط من دون أي قوى خارجية، ومن ذلك الولايات المتحدة، وتكون مستندةً إلى القوة الاقتصادية الهائلة للدول المطبعة، لا سيما من منطقة الخليج، وإلى القوة العسكرية والتكنولوجية لـ(إسرائيل). ويعتقد صاحب هذه المقاربة أنه بهذا المسار، وعلى خلفية منحى مسيطر على السياسة الأمريكية الراهنة متعلق برغبة النأي بالنفس عن أي مواقد توتر في العالم، والتفرّغ لمواجهة المشكلات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والتحدّيات الخارجية، خصوصًا الآتية من الصين؛ بوسع (إسرائيل) أن تثبت لواشنطن مبلغ قيمتها وجدواها، دولةً يمكنها أن تساعد في الحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة.