قوات طالبان تتقدم، الذعر يسود الجيش المرتزق في أفغانستان من أقصاها إلى أقصاها، عواصم الولايات تسقط الواحدة تلو الأخرى، الفوضى سيدة الموقف، قوات الجيش تولي الأدبار عبر الحدود وفي الطائرات التي سقط بعضها بمن فيه.
بدأت الحكومة الأفغانية تتداعى حين استولت طالبان على ولاية نيمروز في 7 آب 2021، طالبان تتمدد نحو الولايات الشمالية رغم الاعتقاد في حينه بأن الحركة تفتقد الشعبية والولاء هناك، الرئيس محمد أشرف غني يهرب من البلاد وقد أعيت أمواله المنهوبة كاهل طائراته فترك وراءه حقائب كثرًا ملأى بالمجوهرات والدولارات على المدرجات.
اختفى "القائد"، وهكذا عاشت البلاد أربعة أيام دون رئيس، حتى هبط رئيس المكتب السياسي لحركة طالبان الملا عبد الغني برادر في مطار قندهار من على متن طائرة قطرية.
كان النزول هناك متعمدًا؛ فهو رمزي لأنها كانت الولاية التي غادرت منها طالبان البلاد عام 2001، حين غزت قوات الولايات المتحدة وحلفاؤها أفغانستان عام 1996 فأرادوا أن تكون عودتهم المظفرة من هناك، وهكذا أيضًا بدأت قوات اليانكي الأمريكي والنيتو ومرتزقتهم من الجيش الذي فرط عقده بالهروب أيضًا، الذي وصف بأنه كان أسوأ من ذاك الذي جرى في فيتنام.
لقد كانت "تباشير" هذه الهزيمة بادية للعيان منذ ولاية جورج بوش الابن، وامتدت حالة النكران مع باراك أوباما وترامب، حتى جاء بايدن مستثمرًا ما فعله من قبله ترامب ليهرب إلى الأمام من مستنقع أفغانستان.
كانوا جميعًا يدعون أنهم يراهنون على جيش كرزاي وغني وهو الذي سلحوه بكل ما للولايات المتحدة من ترسانة أسلحتها، ولكن المنظومة الأمنية والعسكرية الأفغانية انهارت قبل أن تبدأ القتال، وهي التي قدم لها البنتاغون، حسب ما ذكر معهد واتسون بجامعة براون ومركز باردي بجامعة بوسطون؛ ما مقداره 2261 مليار دولار منذ عام الغزو 1996 حتى الانهيار اليوم في عام 2021.
في العلاقات الدولية لا مكان لصداقات دائمة متينة وإنما لمصالح، ما استمرت هذه المصالح دائمة ومتينة، وهكذا تتحدث الوقائع العنيدة أن الدول الاستعمارية ما أن تمسك الشعوب بزمام أمرها في مواجهة حكام باعوا أنفسهم وضمائرهم وأوطانهم؛ حتى تنقلب أيضًا عليهم، فتتهاوى عروش وتسقط رؤوس كانت تعتقد إلى حين أنها ملكت الكون، وتعيش أضغاث أحلام أنها طبعت وطوعت عباد الله الذين ثاروا على جلاديهم وعلى أسيادهم، فما لانت لهم قناة ولا نكست لهم أعلام.
جرى ذلك في جنوب فيتنام تحت ضربات ثوار الفييتكونغ حين سقط حكم الرئيس العميل فان ثيو عام 1975 وتوحدت سايغون وهانوي جنوبًا وشمالًا، فهرب الآلاف من الفيتناميين المتخابرين عسكريين ومدنيين وقد تعلقوا بأذيال طائرات الهليكوبتر والنقل العسكرية، تمامًا كما جرى ويجري في كابول هذه الأيام.
لقد فرض انتصار الثورة على واشنطن أن تخطف سفيرها وبعض عملاء حكومة فان ثيو من على سطح سفارتها في سايغون، ونماذج انهيارات هذه النظم التابعة تترى، ففي طهران حين انتصرت ثورة الشعب الإيراني على الشاه رضا بهلوي عام ،1979 واندحر أيضًا بطائرة خارج البلاد؛ لم يجد من يؤويه، ولم تقبل أي دولة أوروبية أو الولايات المتحدة أن تهبط طائرته حتى للتزود بالوقود، حتى نزل في مصر، لقد نبذوه جميعًا وهو الذي كان حصن النفوذ الغربي والضامن لتدفق نفطه ونفط كل الخليج، حليفًا مركزيًّا لأمريكا وأوروبا، وشوكتهم في خاصرة الاتحاد السوفياتي في حينه.
لقد باعت الولايات المتحدة رضا بهلوي ومن قبله فان ثيو بخردلة، كما سمسرت على بيع نظام التمييز العنصري الأبيض المتوحش برمزيه بيك بوثا وفريدريك دي كليرك عام 1994، حين انتصر ثوار المؤتمر الوطني الأفريقي برئاسة القائد الثوري العالمي نيلسون مانديلا.
صفحات التاريخ حبلى بأبطال كانوا أيقونات وضعتهم شعوبهم في الأسفار التي تليق بهم، وعملاء نالوا ما يستحقون من ذلة؛ فالشعوب الحرة لا تنسى ولا تغفر ولن ترحم، وليس بعيدًا عنا شمالًا حين حلت اللعنة الأبدية بسعد حداد وأنطوان لحد وجيشهم على يد شعب لبنان الشقيق، ومقاومته الإسلامية الباسلة، وطرد الغزاة الصهاينة عام 2000م.
ولم تزل أمريكا تحاول النيل من محور المقاومة في شرقنا العربي الصامد، وهي التي تصدت لخطة دونالد ترامب وقبرتها مرة إلى الأبد، وها هي تحاصر عربان التطبيع مع الصهاينة، وتفرض على العدو تآكلًا لقدراته الردعية، وتزيد معادلًا جديدًا في توازن الرعب، وعدًّا تنازليًّا وجوديًّا، وقد أضحت دولة فاشلة لا تقوى حتى على تشكيل حكومة قادرة على إدارة شأنها العام منذ سنوات، بفعل التحولات النوعية منذ عام 2006، حين فرضت المقاومة على الجبهتين الشمالية لحزب الله والجنوبية للمقاومة الفلسطينية قواعد الاشتباك التي تريد.
إن ما اجترحه شباب فلسطين في مهرجانهم المركزي على دوار ملكة شرق مدينة غزة العزة، وما يقوم به شباب ضفة القسام البواسل يعكسان هذا الاستعداد العظيم للمواجهة والتضحية، والالتفاف حول مقاومتهم الراشدة المقتدرة، التي تعد بقرب حصار وإسقاط التيار المتعاون مع العدو، الذي يقوم اليوم بحملة اعتقالات وقمع للقامات الوطنية والهامات العالية دون خجل خدمة لسيدهم المحتل.
صفحات كرزاي أفغانستان طويت بكل عارها وشنارها، وها هي تقترب اليوم لحظات طي صفحات الذلة والمهانة والسقوط لكرزاي فلسطين.