فلسطين أون لاين

تقرير انهيار الصنعة والبحثُ عن "فردة" الحذاء المفقودة في الخليل

...
صورة أرشيفية
الخليل/ ضحى ادكيدك:

كانت صناعةُ الأحذيّة في الخليل من الصّناعات الرائدة في الاقتصاد الفلسطينيّ قبل انتفاضة الأقصى، وفق تقرير اتحاد الصناعات الجلديّة الفلسطينيّ، انخفض الإنتاج من 10 ملايين زوج من الأحذية عام 2000، إلى 3 ملايين زوج من الأحذية فقط في 2016، مع انهيار الحرفة واختفائها شبه التّام من أسواق المدينة، فقدت الخليل أحد المحرّكات الأساسيّة التي شكّلت نسيجها وعلاقاتها الاجتماعيّة.

في الماضي انتشرت مصانع الأحذية داخل المدينة، ذلك أنّها لم تشكّل مصدر إزعاجٍ يُوجِبُ نقلَها إلى المناطق الصناعيّة، ولم تتطلّب بُنىً تحتيّة خاصّة، كالمساحات المخصّصة للشحن والتفريغ وخدمات التخلص من النفايات، إنمّا تحتاج بشكلٍ أساسيّ إلى الحيّز المكانيّ للإنتاج وتوافر الكهرباء، وهذا ما جعّل الورش تنتشرُ بكثرة في البيوت والحارات والأسواق؛ أي ضمن الحيز السكنيّ والتجاريّ الحيّ في المدينة، ما أعطى الورش خصوصيّةً اجتماعيّةً لأنّها في محيط البيت والدُّكان والشّارع والحارة.

بيوتٌ تترابط بالشغل

تفاعلَ العاملون فيما بينهم وفق الوظيفة الخاصَّة التي يؤديها كلُّ فردٍ منهم؛ فنرى في الورشة نفسها: المُصمم، والمفصِّل (من يقصّ الجلدَ ويرتب الشَّكلَ الخارجيَّ للقطعة)، ثمّ يحبك عاملُ الماكنة "الماكنجي" الجلد ليكون الإطارَ الخارجيّ، فهو مسؤولٌ عن إنتاج القسم الخارجيّ للحذاء (دون الكاوتشوك السفليّ)، ويعطي ما أنتجه للكندرجي، الذي تتمثل وظيفته بأخذ قطع الجلد التي أنتجها الماكنجي، ووضعها على القالب "ويلبس" عليه الكاوتشوك (النعل) ويكبسها، أما المرحلةُ النهائية فمهمة عامل "الفِنِش" (من يضع الرباط، والضّبان، ويُنهي صناعةَ الحذاء ويُعبئه ويغلفه).

كان العمّال موزعين: قسمًا منهم يعملُ في البيت، يحوّل بيته إلى ورشةٍ صغيرة، يساعده أبناؤه وبناته في عملية قص الزوائد من الجلد (قماش الحذاء) وعملية "الإلصاق" أو وضع "الآجو" على التفصيلة. يعملون في البيت داخل الورشة، وقد يدعون أبناءَ عمّهم وجيرانهم، خاصّةً في العطل الصيفيّة أو بعد الانتهاء من الدوام المدرسيّ للعمل في الورشة؛ وعمّالًا يعملون في المصنع، وما يميز هذه الصنّعة أنّ العامل يتقاضى أجره من أول يوم له في العمل، ويحصل على أجرٍ مرتفع مقارنةً بالصناعات الأخرى.

كما كانَ للمرأة دورٌ بارزٌ في صناعة الأحذية ضمن بيئةٍ مناسبةٍ لها، فَحولَها الجاراتُ في الحيّ الذي تسكنه يخِطن الجلدَ والقماش، وقد برعت نساءُ الخليل في خياطة الأحذية تحديدًا، خاصةً تلك التي يصعب إنتاجها باستخدام الآلات.

أما اليوم فيما تبقى من مصانع للأحذية في الخليل تعملُ النساء إمّا في وظائف إداريّة أو سكرتارية داخل المصنع أو المنشأة، ولا تؤدي أي عملية إنتاجيّة.

في الانتفاضة الأولى، خلال الإضرابات وحظر التجوّل، انتقلت بعض الصناعات من الورش إلى البيوت، فالورش صغيرة الحجم ولم تكن بحاجةٍ إلى شيء سوى ماكنة خياطة، وخطّ كهرباء، وأيدٍ عاملة.

نُقلت الورش إلى الغرفة الخارجيّة في الساحة، أو إلى غرفة فوق السطح، أو إلى دكانٍ تحت البيت، أو تسوية أرضيّة (قبو)، صمد المواطنون خلال الإضراب، واستطاعوا الاستمرار في الإنتاج والعمل، فخلال منع التجوّل كانت الورش تعمل ولا شيء يعطلّها، أمّا خلال ساعات فكّ التجوال فكانت تنفذ الأعمال الميدانيّة فقط، مثل شراء المواد الخام، وتوزيع البضائع، وعرضها في المحلّات وإتمام المعاملات التجاريّة.

مركزُ صناعاتٍ أخرى

في سنوات الثمانينيات والتسعينيات، المرحلة الذهبيّة في قطاع الأحذيّة، لم يكن بيت في الخليل إلا وجزءٌ من دخله مصدره صناعة الأحذية، إذ كان يعملُ في قطاع الأحذية عمومًا في التسعينيات نحو 40 ألف عاملٍ.

تتقاطعُ صناعة الأحذية مع العديد من القطاعات الصناعيّة المختلفة في الخليل، فهناك مصانع لإنتاج النعول (أرضية الحذاء)، فنوعية المطاط المستخدم في النعول تحتاجُ إلى قوالب وماكنات صبّ، وكانت موجودة بكثرة، إضافةً إلى مصانع إنتاج الإسفنج المستخدم في الأحذيّة، كانت مصانع الكرتون نشطةً في تلك المدة، لإنتاج علب الكرتون المستخدمة في تغليف الأحذية، حتّى يسهّل توزيعها وعرضها.

كما أنّ عدّة صانعي الأحذيّة اليدويّة مصنوعةٌ في الخليل، كـ"الشاكوش"، و"التلانيّة" (زرديّة لشد الشغل).

أمّا المكوّن الأساسي لصناعة الأحذية فكانَ يأتي من مصانع دباغة الجلود، التي تعتمدُ على ما توافر من الجلود الخام المحليّة، ومصدرها ما يذبح من الثروة الحيوانيّة من القرى والأرياف.

في مدد الإغلاق ومنع الحركة تأثّرت الحركةُ التجاريّة بسبب إجراءات الاحتلال التي تمثلت بوضع الحواجز العسكريّة والبوابات الحديدية والسواتر الترابية على مداخل ومخارج جميع القرى، والبلدات، والخرب، والمدن.

ونتيجةً لذلك أصبحَ أهالي القرى المجاورة يجدون صعوبةً في نقل منتجاتِهم إلـى مركز المدينة التجاريّ، وأُجبروا على الاعتماد على الأسواق الريفيّة بدلًا من التوجه إلى المدينة، ما أدّى إلى مضاعفةِ خسائرهم.

يعاني أصحاب مصانع الدباغ اليوم ارتفاع تكلفة شحن المواد الخام نتيجة القيود التي يفرضها الاحتلال على حركة نقل البضائع، فقد منع أصحاب المدابغ من استيراد مادة الكروم اللازمة لتصنيع الجلود الطبيعية بذريعة حماية البيئة، ما اضطرَّ أصحاب عشر مدابغ على الأقلّ إلى إغلاق أبوابها وتسريح العاملين فيها بعد نفاد مادة الكروم اللازمة لعملية الدباغة، كما منع الاحتلال دخول حامض الكبريتيك، وغيره من المواد المستعملة في عملية الدباغة، لأسبابٍ يدعي أنها "أمنيّة".

زمنُ الأحذية المستورَدة

قدّمت هذه الصنّعة للمدينة أكثر مما يُمكن حسابه بالأرباح الماليّة، فقد تداخلت عمليّة الإنتاج في مجالات وقطاعات كثيرة، وولّدت تفاعلات بين مركز المدينة وقراها، وبين عمّال وجيران وعائلات تعمل في مجالات مختلفة، وبدَّدت الحدود بين ورش الصناعة والبيوت، ودمجت كلَّ فئات المجتمع في العمل، وساهمت باستمرار العمل حتّى في ظروف استثنائية كالانتفاضات والإغلاقات، فلم يستطع الاحتلال أن يوقف ماكنة الخياطة أو يمنع العمّال من الإنتاج.

من حال كانت فيه الأسرة من كبيرها حتى صغيرها تنتج أحذيةً ذات جوّدة عالية، تحوّلنا اليوم، بعد الانتفاضة الثانية والتغييرات الاقتصاديّة العميقة التي أُسقطت على الفلسطينيّين؛ إلى حال يعملُ فيه عددٌ قليلٌ جدًّا من الأشخاص في استيراد الأحذية وبيعها في الخليل، فبعد أن كانت أغلب العائلات في الخليل تحصلُ على دخلها من قطاع الأحذية والقطاعات المتشابكة، أصبحَ الوضع مختلفًا الآن، فعشرات الآلاف تركوا هذه الصنعة وتوجهوا إلى قطاعات أخرى، وأصبح المستورد هو السائد.