فلسطين أون لاين

تأكيد على حاجة الأطفال لرعاية نفسية طويلة الأمد

تقرير اضطراب ما بعد الصدمة.. مشاهد "الحرب" لا تطويها الذاكرة

...
صورة أرشيفية
غزة/ نور الدين صالح:

في منتصف شهر أغسطس الجاري، دخل الطفل "محمد" مدرسته مصطحبًا معه والدته التي أمسكت بيده ترشده إلى الطريق نحو الفصل الدراسي، لكن ما كان يزعجه أنه لم يعد يرى أصحابه، ولا يميز بينهم.

جلس "محمد" على مقعده الدراسي، وهو لا يدري من يجاوره ولا يرى أصدقاءه في الفصل، ما دفعه إلى التزام الصمت.

تقول والدته سمية شعبان: "في قلب محمد غصة، فهذا العام جاء مختلف كليًّا بعد أن فقد بصره في العين اليسرى، بعد أن خرجت من محجرها، في إثر قصف إسرائيلي ليلة عيد الفطر خلال العدوان على غزة في أيار (مايو) الماضي، أما العين اليمنى فتعطلت إلى حد انعدام الرؤية مطلقًا".

وتشير سمية (37 عامًا) إلى أن معاناة محمد لم تنتهِ عند الإصابة وما تبعها من أيام العلاج فقط، فقد تركت الحادثة آثارًا نفسية واجتماعية قاسية عليه وعلى عائلته التي انقلبت كل تفاصيل حياة أفرادها، من شدة المشهد وقسوته، خاصة مع بدء العام الدراسي.

وتوضح سمية أن محمد يعاني نوبات خوف وقلق يترافق معها الصراخ في النهار، ويفز ليلًا بسبب الأحلام المخيفة.

وتضيف: "إن محمد اليوم في الصف الثالث الأساسي، وبات يكره الذهاب إلى مدرسته، لأنه لا يدرك تمامًا ما يدور حوله، فيتحول سلوكه إلى ردود فعل عصبية".

وتلفت كذلك إلى أن محمد أصبح كثير التعلق بها، ويرفض ذهابها عنه ولو لحظة واحدة، رغم مساعيها الدائمة لتلبية كل ما يطلب.

وتستعرض سمية واحدًا من الشواهد على الأزمة النفسية التي يعيشها محمد، إذ سمع قبل أيام أصوات ألعاب نارية، فأصبح يتخبط ويردد: "في صاروخ قدامي"، وكأن ذاكرته استعادت لحظات إصابته الأولى.

ولم تبخل العائلة كما تروي الوالدة عن محمد بأي طلب يريده منهم، في محاولة لإخراجه من حالة الصدمة التي ما زالت تخيم على كل تفاصيل حياته، رغم مرور أكثر من ثلاثة أشهر على انتهاء العدوان الإسرائيلي.

وتفيد معطيات حقوقية ودولية أن الحالة التي يعيشها محمد يشاركه فيها غالبية الأطفال في قطاع غزة، إذ يعاني 91% من صغار غزة صدمات واضطرابات نفسية بعد العدوان الإسرائيلي الأخير في أيار (مايو) الماضي، وفقًا لبيانات المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.

أما قبل العدوان فيشير المرصد إلى أن 33% من الأطفال كانوا بحاجة إلى دعم نفسي نتيجة الصدمة الناتجة عن الهجمات السابقة، موضحًا أن تسعة أطفال من كل عشرة يعانون أحد أشكال الصدمة النفسية المتصلة بالنزاع، على الرغم من مرور عدة أشهر على انتهاء عدوان الاحتلال على غزة.

مؤشرات على الصدمة

الاختصاصية النفسية والاجتماعية سلوى أبو عودة تؤكد أن الحروب تشكل عوامل صدمة للمواطنين، خاصة فئة الأطفال، ما يترك آثارًا سلبية عليهم تطال مختلف نواحي حياتهم الأسرية والتعليمية.

وتوضح أبو عودة لصحيفة "فلسطين" أن مشاهد الدمار والحروب تبقى عالقة في ذاكرة الأطفال، ما يؤثر في التركيز الذهني اللازم للعملية التعليمة، ما ينعكس على مستواهم الدراسي.

وأبرز أعراض صدمة ما بعد الحرب التي تظهر على الأطفال هي: استذكار تفاصيل الحدث ومعايشته من جديد، خاصة في المنام، أو إذا كان الطفل دائم الجلوس مع نفسه فيعطيه ذلك مساحة واسعة لفقدان التركيز والذاكرة والشرود الذهني، أو إذا تحدث إلى أحد أقاربه من الدرجة الأولى.

ووفق حديث أبو عودة، ثمة علامات أخرى لاضطراب ما بعد الصدمة تظهر على الأطفال، منها: التبول غير الإرادي، والخوف من الليل، وعض الشفاه، والتعلق الزائد بالأهل، وعصبية المزاج، وعلامات أخرى يستطيع المعالج النفسي التعرف إليها من عائلة المتضرر.

وتوضح أن أعراض الصدمة تظهر بعد نحو شهر من الحادث، إذ يبدأ الطفل إظهار ردود فعل صدامية تجاه المحيط الاجتماعي أو تجاه نفسه، منبهة إلى وجود صدمة متأخرة قد تظهر بعد عدة شهور.

وفيما يتعلق بطريقة العلاج تقول أبو عودة: "يجب على عائلة الطفل والتربويين في الروضة أو المدرسة إشعاره بالأمان والطمأنينة، وإعطاؤه الفرصة للتعبير عن مشاعره، وإشغاله بأنشطة ترفيهية".

وتحث الأهل على متابعة الطفل باستمرار، في أثناء تنفيذ الأنشطة والواجبات المنزلية، إضافة إلى متابعة المعلمين تفاعله في الفصل.

وتشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) إلى أن نحو 250 ألف طفل من أطفال غزة يعانون مشكلات نفسية، وفي حاجة للمساعدة والدعم.

ويؤكد اختصاصيون نفسيون أن الأطفال الذين عانوا صدمة الحرب يحتاجون إلى عناية طويلة الأمد، عبر منحهم المزيد من الدعم النفسي والاهتمام، وهم يطالبون الأمهات على وجه الخصوص بمراقبة الأطفال الذين عاشوا تجربة الحرب، تحسبًا لظهور اضطرابات نفسية، مثل اضطرابات المزاج والشخصية، وعدم الإحساس بالذات.