كثيرة هي حركات التحرير، وتُعدُّ بالعشرات تلك التي انتصرت على المحتل الأجنبي رغم غطرسة القوة ووحشية المجازر وتفوّق العدو وعلى كل الصُعُد!
ولا تذكر أسفار التاريخ أن شعباً لم يمارس ممثلوه وسيلة التفاوض مباشراً كان أو غير مباشر للإعلان عن ظفره واستقلاله النهائي وبناء دولته الوطنية تتويجاً لنضاله وتضحياته.
ولكن التفاوض لم يكن يوماً شكلاً للنضال مارَسَتْهُ حركات التحرير لإنجاز أهدافها والحفاظ على ثوابتها، فقد كان التفاوض ودوماً الأسلوب الذي تَحْصُدُ من خلاله ما أنجزته أشكال النضال المختلفة السِلْمي منها والعنيف وراكمته في معاركها بالنقاط لتُحْدِث في النهاية التَّحوّل النوعي بانتصارها الإستراتيجي وهزيمة العدو وتطهير الأرض.
وللمفاوضات شروطها والتي بدونها يصبح التفاوض عبثاً لا طائل من ورائه! ومن ذلك ضرورة توفر وحدة وطنية راسخة حتى لو كانت على برنامج الحد الأدنى الوطني، مع ميزان قوى يميل لصالح المُفاوِض، وتوفر التحالفات المناسبة على المستويين الاقليمي والدولي، إلى جانب كفاح ميداني دؤوب يُسْتَنَدُ إليه ويُعْتَدُّ به على طاولة التفاوض.
فريق التفاوض " الفلسطيني " بِكبارِه وصِغارِه لم يكُ يوماً يمتلك ورقة واحدة مما تقدم، ولهذا ازداد عدد المستوطنين بمئات الآلاف منذ توقيع اتفاق أوسلو في 13 أيلول عام 1993 ميلادية حين كان عددهم 65 ألفاً وقد أضحى اليوم يزيد عن 850 ألفاً.
هذا التفاوض الكارثي لم يزل مستمراً وعلى مدار الساعة وبوسائل متعددة، بل ويجري استجداء انعقاده علناً عَبْرَ غير وسيط " عربي "، و" بالضغط " على واشنطن واحراجها بقبول كامل شروطها وفي مقدمتها صمت القبور على تسارع الاستيطان على طول وعرض الضفة الفلسطينية المحتلة وفي قلب القدس التي تُستَوْطن وتُدَنَّسُ جهاراً نهاراً.
وكان آخر تنازلات الإذعان الآسنة ما تحدث به بالصوت والصورة ومن قناة عبرية جبريل الرجوب الذي اعتبر فيه حائِط البراق يهودياً وملكاً للمستوطنين اليهود في قدس الأقداس، وهي الجريمة والسابِقة الأخطر حتى اللحظة!
كما أن رئيس حكومة النفاق رامي الحمد الله عبّر عن فرط إعجابه بالزميل بنيامين نتنياهو الذي قدّر اللحظة الفارقة بفطنةٍ خارقة " فأحبط " إمكانية اندلاع انتفاضةٍ ثالثة على حد قول المذكور.
إن هذه الهرولة لفريق نزلاء سلطة العار في مقاطعة رام الله المحتلة تقتضي رداً مُزلزلاً من كل القوى الوطنية المُقاوِمة الحيّة التي تَعزُّ عليها كل ذرة تراب من القدس وفلسطين أرض الرباط ووطن المجاهدين الذين يُقدمون دماءهم رخيصة من أجل تحريرها من رجس الاحتلال وعملائه. وفي زيارة رأس سلطة " أوسلو " الأخيرة إلى واشنطن استمر التفاوض وكان العدو حاضراً في كل التفاصيل!
هذا التهافت الخياني الأرعن تجاوزٌ لكل الخطوط الحُمر ولا بد من وقفه وردعه ومحاسبة فاعليه وعدم الاكتفاء بالشجب والاستنكار.
كذلك في " قمة الحجيج " إلى دونالد ترامب في الرياض حين قدم المستعربون والمتأسلمون " الجزية " لكبيرهم القادم من واشنطن، كان نتنياهو الحاضر الغائب وأزلامه تابعوا التفاوض مع أسيادهم الصهاينة أيضاً.
إن تاريخ هذه العصابة معلوم للقاصي والداني، وهي ليست المرة الأولى التي يُقدِّم فيها هؤلاء المارقون التنازلات الفادحة، فقد سبق لجبريل الرجوب مثلاً أن سَلّم واعتقل المئات من المناضلين في سجن بيتونيا وخلية صوريف , واستشهد العشرات ومن بينهم الشهيد الشيخ مجد البرغوثي.
الرجوب ينفي ما " نُسِبَ " إليه، وسلطة عباس التي تُقدِّس التخابر مع العدو " تعتذر عن الخطأ " الذي وقعت فيه الحواسيب بقطع مُرتبات 47 برلمانياً فلسطينياً من أنبل ممثلي الشعب الذين اختارهم ليكونوا عنوانه في مواجهة المحتلين والقتلة من بني جلدتنا، في الوقت الذي تم فيه قطع مُرتبات أعضاء المجلس التشريعي من حركة حماس في قطاع غزة منذ عام 2007 ميلادية.
الانقلاب على الشرعية الديمقراطية والشعبية الفلسطينية يستمر فصولاً منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في 25 كانون الثاني عام 2006 ميلادية وحتى اليوم، وهو انقلاب على إرادة الشعب وخياره الديمقراطي الحر وعلى حقوقه وثوابته الوطنية وهكذا يستمر فريق أوسلو في تفاوضه الآثم سادراً في غِيّهِ لبيع ما تبقى من الوطن.
رئيس وزراء دولة العدو تُسعِدهُ رسائل عباس المتتالية " لمواجهة الإرهاب " الذي يُفصِحُ بأن المقاومة " وحركة حماس " في مقدمته، كما يعبر وزير حربه أفيغدور ليبرمان عن غامِرِ فَرَحهِ بالخلافات الخليجية حين تقطع السعودية والبحرين والإمارات العلاقات مع قطر وكذلك تلتحق اليمن ومصر ويقول إنها مدخل دولة الاحتلال للتطبيع مع " العرب " ولا يُخفي عباس غِبطتهُ بذلك.
ولكن الشعوب التي حققت الغَلَبةَ دوماً، ستُحرز نصرها اليوم وشعب فلسطين الصامد على الطريق، وسيذهب فريق التفاوض " أصحاب أوسلو " إلى نهايتهم المحتومة، فالشعب لا ينسى ولا يغفر ولن يرحم.