تتبجح الحكومات والنظم العربية ببرامجها لخفض نسب الأمية، وتنشغل بمؤشر محو الأمية وتعلم القراءة والكتابة، وتتسابق إلى الانشغال بهذه المؤشرات بشكل لافت. ومن بين كل مؤشرات التنمية، يتم تصدير هذا المؤشر، وتغليبه على غيره. ومع أهمية هذا المؤشر عالميًا، إلا أن ما يقع خلف هذا الانشغال بمحو الأمية، والتركيز على التدريس الابتدائي، يستدعي ملاحظة وتنبّهًا.
المدرسة مؤسسة مقدسة عند نظم هذه المنطقة، وانزرع تقديسها في الناس بمجموعهم. وعلى الرغم من تراكم نقد هائل في العلوم الاجتماعية لدور المدرسة، والنظام التعليمي بشكل عام، كأجهزة تلقين أيديولوجيا النظام وإعادة إنتاج نخبته وتفاوتاته الطبقية (ألتوسير وبورديو مثلا)، فإن تغلغل هذه المقولات، أو روحها، ظل ضعيفًا عربيًا. وجاء الاستخدام المشوّش للنص الديني، وحضه على العلم والتعلم، ليستخدم ويستغل في تقديس منظومة التعليم والتدريس الشائعة، أي المدرسة، بمنهجها وارتباطها بوزارات النظام وآليات حكمه ورؤيته للتنمية.
وعلى الرغم من كل المؤشرات التي تبحث في طبيعة المنتج الذي تقدمه النظم التدريسية العربية، فإن الانشغال ظل بمؤشرات الأمية ومحوها والحصول على الشهادة بمعناها العام، من دون أي تدقيق، أو تمحيص، في قيمة ما تقدمه هذه المنظومة التعليمية. وعلى الرغم من إثارة جدل كثير يوميًا عن عطب النظام التعلمي في المنطقة العربية، فإن ما قد يستحق لفت الانتباه إليه، أيضًا، هو أن منظومة التعليم الأساسي، أو تعليم الحد الأدنى، وما تنتجه من أفراد تطلق عليهم صفة متعلمين، هي أقرب إلى تجهيز الأفراد بكل ما يلزم، ليستقبلوا خطاب النظام القائم وأيديولوجيته، إلى جانب تمكينهم من مؤهلات لعب دور مرصود في بقاء النظام وديمومته.
حين يعلّم النظام الناس القراءة، ويمحو أميتهم ضمن نظام تعليمي لا يريد أكثر من الحد الأدنى، فهو يسهّل من استقبالهم تصورات النظام المبثوثة في كل مجال سمعي وبصري، وبلغة مناسبة لتعليم الحد الأدنى، وهذا ما توفره الصحف القومية ووسائل الإعلام ومنشورات الدولة. ولعل السيطرة على عالم النشر والمطبوعات، بدءًا بالجرائد القومية، يشير إلى أن تمكين الفرد من القراءة سيجعله في مواجهة مع كل دعاية أيديولوجيا النظام والدولة، وسيغدو قادرًا على الفهم ضمن هذا الإطار العام المدروس. ومن جهة أخرى، يغدو مؤهلًا للعمل ضمن منظومة الدولة، كجندي قادر على قراءة التعليمات العريضة، أو موظف بسيط في قلب البيروقراطية المتضخمة، ليس بحاجة إلى أكثر من "فك الخط" ليؤدي مهامه.
لا مكان، هنا، للحديث عن الانفتاح المعلوماتي، والقدرة على الاطلاع على مختلف الرؤى والمقولات والأفكار. هذا غير متوفر لمجموع الناس، وتحديدًا من يعيشون في البقاع الأبعد، في الأرياف والأطراف والهوامش. وتلك هي البيئة الخصبة لمشاريع تعليم الحد الأدنى ومحو الأمية، ثم العمل عند الدولة.
وهنا، يمكن التساؤل عن المكتبة العامة وغيابها وموقعها في منظومة التعليم بمعناه العام، والمكتبة المقصودة، هنا، غير خاضعة للنظام التعلمي وتراتبيته في منظومة السيطرة على الناس، والمفتوحة لكل قارئ، ولشتى أشكال المساهمات، لأنها غير تابعة للدولة، بل للمجتمع، ومشرّعة لمختلف الأفكار والتصورات وللجميع. وارتيادها بكل التنوع الذي يفترض أن تحويه يضع القادرين على القراءة في مواجهة عالم متسع حر بعيدًا عن المنهاج الدراسي المفصل على مقاس السائد، والذي لا يرى تعليمًا ومعرفة أوسع من حدود الشهادة المدرسية وحاجات النظام.
يبدو مهمًا، في عصر الأحاديات هذا، إعادة ترتيب الأولويات لتحضر المكتبة إلى جانب المدرسة، إن لم تكن قبلها. المكتبة العامة غير الخاضعة لوزارات الثقافة المنسحبة خلف مزاج الحاكمين المتبدلين مع الدورات الانتخابية أو الانقلابات. ويمكن، أيضًا، مساءلة مؤشرات التنمية عن المكتبات العامة في القرى والأرياف، بدل استعراض عدد المدارس والطلاب، كل ذلك دفاعًا عن المتحدد في وجه الأحادي والشمولي.