الصراع بين الحق التاريخي للشعب الفلسطيني "والتمظهرات الحضارية" التي يبني الاحتلال الصهيوني تطلعاته الاستيطانية عليها؛ بات أشبه بساحات حرب مفتوحة.
قبل ساعات من إعلان موسى فكي (دبلوماسي تشادي) انضمام كيان الاحتلال الإسرائيلي كمراقب في الاتحاد الإفريقي؛ أعلنت سلطات الأولمبياد المنعقدة في طوكيو ترحيل لاعب الجودو "فتحي نورين" إلى الجزائر بعد رفضه منازلة ممثل علم الاحتلال الصهيوني، معتبرة ما قام به اللاعب الجزائري مخالف لسياسات الاتحاد الرافضة "للتمييز" وللمبادئ الرياضية من احترام وصداقة.
الغريب في تصريحات المتحدث باسم الاحتلال -بعد انضمامه للاتحاد الإفريقي- ما اعتبره انتفاء حالة "العداء السياسي" التي كانت (إسرائيل) تعيشها منذ عام 2002، مسعفا تصريحاته تلك بأنّ (إسرائيل) دولة صديقة بإمكانها "مساعدة الدول الإفريقية في القضاء" على "الإرهاب" و"التطرف" ومواجهة تداعيات فيروس كورونا.
عزلة مستمرة.. البحث عن اعتراف ثقافي واجتماعي
أن تكون دولة احتلال يعني المزيد من الجرائم والتهجير والعنف الممنهج، أمّا أن تكون صاحب حق فبإمكانك أن تطالب العالم الحر بالاعتراف بأشكال المقاومة المختلفة، بدءا من السياسي والاقتصادي وصولا إلى الثقافي والرياضي، فالاحتلال الإسرائيلي -منذ نشأته ككيان مغتصب للأرض والهوية وهو يخوض حروبا مع العرب- انكفأ على حدود رسمها الاعتراف الغربي به كدولة تملك "الحق في السيادة والدفاع عن النفس"، وبدل أن تتحرّك جيوشه لسلب الأراضي العربية وفرض سياسة الأرض المحروقة، باتت سفارته تجوب شوارع وحارات من المحيط إلى الخليج، فالغرب -مع ما أنتجته حضارته من أزمات هوياتية وثقافية داخل مجتمعاته- لم يتوانَ في تكرار احتقاره التاريخي واللاأخلاقي تجاه المرحّلين والمهجّرين.
إن بلوغ (إسرائيل) هذه المرحلة المهمة من تاريخ تكوينها كاحتلال؛ كان وفق مراحل متتالية من العلاقات السياسية مع الإمبريالية الغربية من جهة، والنكسات الثورية التي منيت بها منطقتنا العربية منذ أن انتفضت شعوبها ضد الممارسات الديكتاتورية لورثة الاستعمار من جهة أخرى، فقد عمل التحوّل نحو خلق صورة "دولة" مسالمة ومندمجة مع الحضارة الإنسانية إلى "متضامنين مع الاحتلال" يحسنون فن تأجيل الحلول النهائية للواقع الاستعماري، وللعمل بشكل يسمح لإسرائيل بالتماهي في فرض رؤيتها على المؤسسات الدولية وفق سردية جعلت من عصابات الهاغاناه (جيش دفاع)؛ كان عليها أن تخطو بحذر نحو اتحادات وتجمعات دولية كنوع من ترسيخ العلاقات السياسية والاقتصادية غير المباشرة بين دول لا تعترف بها.
وهذا الشكل من الاعتراف السياسي تهدده المخاوف من حركات التمرد والمقاطعة المتضامنة في الوقت ذاته مع الحق الفلسطيني، فمن الجانب السياسي ذلك يعد "تجاوزا للحقائق التاريخية" نحو مقررات المجتمع الدولي المتلاعب بقضية تصفية الاستعمار، أما من الناحية الاجتماعية والثقافية وحتى الرياضية فإنه يمنح "هوية حضارية" للاحتلال تمكنه من تعزيز "سرديته التاريخية الملفّقة" عن الأرض، ولو نظرنا إلى المساعي المبذولة -لإسكات أي صوت مناهض للأبارتهايد الصهيوني المناصر لقضية تصفية الاستعمار، وهو صوت باستطاعته "فضح (إسرائيل) ثقافيا واجتماعيا" كحركة "مقاطعة إسرائيل" (BDS)- لأيقنا أنّ الصراع القائم بين الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في دولة مستقلة ذات سيادة "والتمظهرات الحضارية" التي يبني الاحتلال الصهيوني تطلعاته الاستيطانية وسياساته التهويدية عليها؛ بات أشبه بساحات حرب مفتوحة على جبهات ثقافية ورياضية لا تنتهي عند رفع علم الاحتلال بأولمبياد طوكيو فحسب، بل تعدت إلى المخاوف من استعادة (إسرائيل) "عزلتها الثقافية والاقتصادية" مع ما تنتجه سياستها الاستيطانية من عنف ممنهج.
تبحث (إسرائيل) عن اعتراف يتجاوز الاتفاقيات السياسية إلى طموحات كولونيالية بوسعها العمل على ترسيخ هوية إسرائيلية عابرة للثقافات ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا بـ"التسامي المطلق" الرافض لأيِّ نقد ومحاسبة، الأمر الذي سمح بإفلات (إسرائيل) من أيِّ ملاحقة قانونية بسبب ارتكابها جرائم ضد الإنسانية في فلسطين ولبنان، فالممارسات الاستعمارية الضامنة لاستمرارية الكيان المحتل كان الغرب يبحث لها عن تأويلات أخلاقية ومخرجات قانونية لإحباط أي مشروع أو تقرير يسرد تفاصيل الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، وقد عمل على تحقيق ذلك بعدما جرّد المؤسسات الدولية من مرجعيتها "الأخلاقية" وصاغ لها لوائح تحضر مناهضة (إسرائيل) باسم الهولوكوست ومعاداة السّامية.
وتبدو طموحات (إسرائيل) أكثر "فعالية" في تحقيق أهدافها الإستراتيجية بالتغلغل داخل البنى العربية والغربية، غير أنّ الانسياق وراء تحقيق نجاحات باهرة في حصول الاحتلال على اعتراف ثقافي واقتصادي مباشر بالكاد يتجاوز توقيته الجغرافي، فبمجرد أن تتحرك دبابة أو مستوطن صهيوني لترحيل عائلات فلسطينية؛ يستعيد العالم صورة "إسرائيل الاستعمارية" المتعلقة بمجازر الإبادة والتهجير، ومهما بدا الأمر انتصارا على دعاة مقاطعة (إسرائيل) فهو فوز لحظي يتداعى بمجرد أن تعلن شركة ما أو لاعب دولي انسحابه من منافسة مستوطن، فالغرض من المقاطعة نفي الشرعية الحضارية والأخلاقية والثقافية عن الاستعمار الصهيوني.
على ضفاف النيل.. الراية الزرقاء تغزو السمراء
تزامن إعلان انضمام (إسرائيل) إلى الاتحاد الإفريقي من طرف سفير الاحتلال لدى إثيوبيا -المستمرة في مشروع سد النهضة المهدد لأمن السودان ومصر المائي- مع رفض ألماني المشاركة في مؤتمر أممي حول "العنصرية" خوفا من تشويه صورة إسرائيل، وهو موقف لطالما سعى الاحتلال الصهيوني للبحث عنه لخلق المشاعر والمواقف الإيجابية تجاهه، فلعقود مضت ظلت عين (إسرائيل) على القارة السّمراء منبع ثروات الحضارة الغربية، وقد تكللت مساعيها الاستخباراتية في فتح قنوات للتطبيع المباشر مع دول إفريقية تفاقمت معاناة شعوبها بسبب تراكمات خلفتها الكولونيالية الغربية.
ولم يتوقف المشهد عند انتقال بنيامين نتنياهو إلى 4 دول إفريقية، مصطحبا معه أكثر من 80 رجل أعمال وشركات إسرائيلية لخلق ما سماه "علاقات تجارية مع إفريقيا"، فأوغندا وكينيا وروندا وإثيوبيا هي الدول التي انطلقت منها رحلة رئيس وزراء الاحتلال بعد سنوات من القطيعة توجت برفض الاتحاد الإفريقي الاعتراف "بدولة إسرائيل"، بل إن علاقة الأنظمة العربية بالصهيونية فتحت الأجواء أمام الرحلات التجارية والسياحية، والتي أسهمت في تحرير الكيان من عزلته الجغرافية والسياسية والاقتصادية، فنزوح مصر نحو اتفاقية سلام دائمة وتسابق محموم للأنظمة العربية لاسترضاء الإسرائيليين؛ أعطى الضوء الأخضر لدول القارة السمراء استعادة علاقاتها مع من كانت تعتبره استعمارا عنصريا.
أمّا على المستوى الثقافي والاجتماعي فما زالت الشعوب العربية وغيرها من شعوب العالم الحر ترفض الاعتراف بالمحتل الصهيوني، وللحيلولة دون تكرار أخطاء الحروب السابقة المنبثقة عن أيديولوجية استعمارية بربرية متوّجة بالقتل والتهجير؛ يسارع الغرب في فتح قنوات أكاديمية وثقافية ورياضية لتعزيز التقارب الإسرائيلي مع الفاعلين المحليين، وبدل أن تجرّم المؤسسات الحقوقية الطرق اللاأخلاقية للرّعاة الرسميين للاستعمار؛ يصبح فرض الأمر الواقع متعلقا بمسألة هوياتية وتاريخية من شأنها الاضرار باليهود، كما تزعم مراكز الضغط الإسرائيلية في خطاباتها الترويجية للاستيطان الصهيوني وحملات التهجير كونها استعادة حق تاريخي مسلوب.
ولتفكيك الخطاب العالمي الداعم للحق الفلسطيني في الأرض كان على الأمم المتحدة أن تهب المهجرين في العالم عن أوطانهم علما ونشيدا خاصا بهم يمكّنهم من المشاركة في الفعاليات الرياضية والثقافية، حيث اللجوء لا يعني اليهودي المرّحل من أوروبا إلى فلسطين التاريخية، بل أولئك الذين يعيشون الشتات والمنافي داخل أوطانهم، وبدل الوقوف في صف تطلعات الشعوب في تقرير مصيرها؛ تصطف اللجنة الدولية لأولمبياد طوكيو 2020 مغيبة معها الحقوق التي يناضل من أجلها المنتفضون لتصفية الواقع الاستعماري.
ونتذكر حادث الرهائن الصهيونيين عام 1972 بأولمبياد ميونخ، وإحيائه ضمن فعاليات طوكيو الرياضية بالوقوف دقيقة صمت على القتلى؛ حيث استطاع الحادث أن يحقق المزاعم التاريخية للممارسات الصهيونية في إخراج مسألة تحرير فلسطين عن سياقها التاريخي والإنساني إلى حالة "غير مبررة من العنف اللاثوري" يتسمك الغرب بها على أنها عدالة ونضال أهالي "الضحايا"، وفي الوقت الذي تتغاضى المؤسسة الأولمبية عن المعاقين والمعزولين بالأراضي المحتلة الذين منحتهم الأمم المتحدة علما خاصا بهم لتمثليهم ضمن الفعاليات الدولية؛ ينبري أعضاء الهيئات الدولية كسفراء للاحتلال الصهيوني لتحييد الحقوق المشروعة للمستعمَر عن التزامها الحضاري والتاريخي، كي تغدو مسألة تصفية الاستعمار الصهيوني قاب قوسين من الاعتراف الكلي بدولة إسرائيل، وفق منتج "نيكولونيالي" يمارس استلابا بأطيافه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
ولا يتوقف الأمر الآن على رفض دول غربية كألمانيا المشاركة في مؤتمرات الأمم المتحدة المناهضة للعنصرية؛ فثمة قنوات أخرى أسهمت في شرعنة الاحتلال من دون الحاجة إلى الاعتراف به سياسيا واقتصاديا، فإعادة رسم الحدود البحرية السعودية المصرية وتقسيم الحوض النفطي بالساحل اللبناني، أمران ألغيا الاصطفاف ضد (إسرائيل) وعزّزا من قدرتها الاقتصادية والتجارية والصناعية ولو بشكل نسبي، وأصبح الكيان شكلا متطورا عن الهيمنة الغربية ليس على المنطقة العربية فحسب، بل على أي نشاط رياضي وثقافي "استفزازي" من شأنه أن يهدد صورتها "الحضارية"، وفي هذه الحالة ليس بمقدور دعاة مناهضة (إسرائيل) إلا أن يستمروا في توثيق الانتهاكات والجرائم، وصياغة سردية مضادة من داخل وخارج المحيط الفلسطيني، تفضح بموجبها التلفيق الصهيوني والتماهي الغربي والتواطؤ العربي مع استعمار وحشي قائم على العنصرية والإرهاب.