وصف مهندس نظام الأبارتهايد العنصري ورئيس حكومة جنوب إفريقيا العنصرية، فيرورد، في عام 1961، (إسرائيل) بأنها "مثل جنوب إفريقيا دولة أبارتهايد"، وأضاف أنّ "(إسرائيل) أخذت أرضها من العرب الذين عاشوا عليها آلاف السنين".. وطوال سنوات حكم الأبارتهايد العنصري كانت جنوب إفريقيا و(إسرائيل) حليفتين وثيقتين، تعاونتا عسكريًا واستخباراتيًا، وسياسيًا ضد حركات التحرّر في إفريقيا والمنطقة، بما في ذلك ضد الثورة الجزائرية، وأجرت (إسرائيل) خلالها كثيرًا من تجاربها لإنتاج الأسلحة النووية في جنوب إفريقيا.
وفي عام 1956، تحالفت (إسرائيل) مع القوى الاستعمارية في بريطانيا وفرنسا، لشن حرب السويس ضد مصر، بعد تأميم الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، قناة السويس، ونتيجة دعمه المتواصل الثورة الجزائرية وقوى مناهضة الاستعمار في المنطقة، وهو هجوم فشل فشلًا ذريعًا، وإنْ أكد الدور الرجعي الاستعماري لـ(إسرائيل) في خدمة المصالح الاستعمارية. وفي الستينيات، تبرّعت (إسرائيل) بما تستطيع لمساندة العدوان الأميركي على فيتنام، بل إن وزير الحرب الإسرائيلي، موشيه دايان، زار فيتنام الجنوبية، للاستفادة من خبرات ذلك العدوان الذي فشل بسبب مقاومة الشعب الفيتنامي وصموده، ونشوء حركة معارضة شعبية أميركية لتلك الحرب، كان من أبرز رموزها المناضل الأميركي ضد العنصرية، مارتن لوثر كينغ، وأشهر ملاكمي العالم، محمد علي كلاي، والممثلة جين فوندا، وملايين الشباب الأميركيين.
كل ما ذكر يفسر عدم استغرابنا ما تسرّب، أخيرا، من دور تآمري خطير لحكام (إسرائيل)، وشركاتهم الأمنية، وتحديدًا شركة NSO، من خلال البرنامج التجسّسي بيغاسوس الذي باعوه لأجهزة المخابرات في أنظمة قمعية عديدة، بغرض التجسس على منظمات حقوق الإنسان، والمعارضين السياسيين، والمناضلين ضد القمع ومن أجل حقوق الإنسان، والصحافيين. وانكشف هذا التورّط بعدما أصبحت أنظمة عديدة تستخدم البرنامج للتجسس على رؤساء وحكام دول أوروبية، مثل الرئيس الفرنسي، ماكرون، ووزراء ونواب وصحافيين أوروبيين. وما أصبح معروفا أن "بيغاسوس" الإسرائيلي يستطيع التسلل إلى الهواتف المحمولة عبر إرسال "إيميل"، أو رسالة نصّية، أو رسالة واتساب، وبعد ذلك يستطيع سرقة كل المعلومات في الهاتف المحمول عن بعد، من دون لمسه أو فتحه، بما في ذلك "الإيميلات"، والرسائل، والصور، والمواقع، وقائمة الهواتف، كما يستطيع فتح الهاتف عن بعد، وتسجيل المكالمات، أو فتح الكاميرا وتصوير المحيط الذي يوجد فيه الهاتف. وهذه قدرات كانت سابقا محصورةً بيد دول، كالولايات المتحدة وبريطانيا حسب ما نشره إدوارد سنودن عام 2013، لكنها أصبحت متاحةً الآن، بفضل برنامج بيغاسوس، لكل من يدفع من الأنظمة، والحكومات القمعية، وحتى بعض المجموعات.
ما يكشفه هذا التسريب الذي تجري محاولات للتستر عليه، وتخفيف الأضرار الناجمة عنه، هو الدور الوظيفي الذي اختاره حكام (إسرائيل) لها، والحلفاء الذين يتعاونون معهم، وهم القوى الرجعية المعادية للديمقراطية وحقوق الإنسان، في انسجام مع الشعور الداخلي العميق لهؤلاء الحكام بأنهم يمثلون أسوأ أنماط التطهير العرقي، والاحتلال، والأبارتهايد العنصري التي يستخدمونها ضد الشعب الفلسطيني. ولا يخفى على أحد أن مشاريع التطبيع التي نفذت بين (إسرائيل) ودول في المنطقة في ولاية الرئيس الأميركي المنصرف، ترامب، في إطار ما سميت "اتفاقيات أبراهام" كانت، في الأساس، مشاريع للتعاون الأمني والتجسّسي.
وبهذا السلوك، يحاول حكام (إسرائيل) ضرب عصفورين بحجر واحد، فهم يشجّعون القوى والأنظمة المعادية للديمقراطية والتقدم ويدعمونها، لتبقى (إسرائيل) القوة المهيمنة على المنطقة. ومن ناحية ثانية، فإن كل معلومة يتم الحصول عليها عبر برامج التجسس الإسرائيلية، من أي نظام، تصبح فورًا ملكًا لـ(إسرائيل) ومنظومتها الأمنية، بحكم أن برامج التجسس المباعة تنقل أوتوماتيكيًا المعلومات إلى المشغلين الإسرائيليين لهذه البرامج، وجميعهم خرّيجو (الجيش الإسرائيلي) وأجهزة مخابراته، ويحافظون على الارتباط بها.
ولا تمثل فضيحة "NSO" و"بيغاسوس" سوى قمة جبل الجليد من التعاون الأمني والعسكري والتجسّسي الذي تقوم به الأجهزة والشركات الإسرائيلية مع الأنظمة القمعية في العالم. وفي كتاب "انهض واقتل أولا" الذي نشره المؤلف الإسرائيلي، رونين بيرغمان، بشأن نشاطات أجهزة الموساد الإسرائيلي عشرات الأمثلة على الدور الذي قام به ذلك الجهاز في هذا المجال، ومنها مساهمته المباشرة في عملية اختطاف المناضل المغربي المهدي بن بركة واغتياله. ومن الأمثلة المعروفة لمن يريد أن يعتبر، نشاط أجهزة الأمن الإسرائيلي في جنوب السودان، ودعمها أكثر من عقد مخطط إنشاء سد النهضة في إثيوبيا، بغرض إضعاف مصر والسودان، وإحداث مشكلات مائية وحياتية لشعوبها، بالإضافة إلى دعم حركات إرهابية في سورية وتسليحها، وحركات عميلة في جنوب لبنان مثل جيش أنطوان لحد. ويرسم ذلك كله صورة واضحة لطبيعة التحالفات التي أنشأها حكام (إسرائيل) منذ تأسيسها.
هذه حقائق بالغة الأهمية لكل من يساهم في بناء حركة تضامن لمساندة الشعب الفلسطيني، أو يسعى إلى هذا، وهي حركةٌ واجهت ارتباكًا بعد اختلاط المفاهيم والمعايير، وخصوصا بعد توقيع اتفاق أوسلو (1993)، وبعدما أثبتت التجارب الكثيرة أن أكثر من يقف إلى جانب الشعب الفلسطيني هم المنسجمون مع شعوبهم نفسها، والحريصون على حقوقها، وليس القامعين لها.
أما التحدّي الآخر، فهو موجّه بشكل خاص إلى دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم، وخصوصا في الغرب، وإن كانوا سيقومون بما تتطلبه برامجهم، ومواقفهم، وشعاراتهم، من تصدّ للقمع الإسرائيلي الذي تجاوز قمع الشعب الفلسطيني، ليصبح جزءًا من منظومة قمع عالمية لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب في الحرية والديمقراطية.