كل الفتيات غمرهن آباؤهن بالفرحة إلا "ملاك"، فقد شدها الشوق إليه، وافتقدته وقت إعلان نتائج الثانوية العامة ليشاركها فرحتها.
كبرت "ملاك"، تلك الطفلة التي لم تتجاوز تسع سنواتٍ لحظة اغتيال جيش الاحتلال الإسرائيلي والدَها الشهيد القائد القسامي أحمد الجعبري في نوفمبر 2012م، لتفتش لاحقا عن سيرته لتصنع الحلم الذي يريده وتلبي الآمال التي رسمها لها منذ قدومها للحياة.
ويوم إعلان نتائج الثانوية التفت العائلة حول "ملاك"، أجواءٌ زادت الرهبة بداخلها، كانت المسافة الفاصلة بين التاسعة والعاشرة صباحًا، طويلةً على فتاةٍ تقف على بوابة المستقبل، وابنة شهيد قائدٍ تنتظرُ أن تحيي اسمه من جديد.
"خشيتُ أن أحصلَ على معدلٍ منخفضٍ عن الذي توقعته، فقد كنت أتوقع حصولي على معدل 90%، في البداية صدمت بمعدلي الذي حصلت عليه بعدما وصلتني الرسالة ( 86.6% بالفرع الأدبي) لكون الامتحانات كانت سهلة ولم أستصعبها، لكن بعدما شاهدت فرحة أمي وأقاربي تقبلت المعدل وعمت الفرحة بيتنا وحققتُ آمال أبي".. تستمع إلى كلماتٍ متزنة متناسقة تغادر فمها كأنك تنصتُ إلى مذيعٍ تلفزيوني.
تغمر الفرحة صوتها: "أشعر بالفخر بهذا الإنجاز والنجاح، الحمد لله على كل حال، رغم أني كنت بتمنى لو كان بابا موجود حولي، أكيد كان راح يكون شعور ثاني، وأنه راح يكون مبسوط وفرحان بهذا النجاح" تقول ملاك.
الغصةُ التي تشعرُ بها ابنة الشهيد، هي ذاتها التي يشعر بها أبناء الشهداء، وكل من فقد والده، يعيشون طقوس فرحٍ أصعب من الحزن ذاته، في طقوسٍ مختلفة المراسم.
"أبي كان دائمًا يشجعني على الدراسة، رغم أنه معظم الوقت كان خارج البيت وكنت أنتظر عودته مساء كل يوم، لأجلس معه، ويدرسني مادة مادة، أذكر أننا انتقلنا لمنزلٍ جديد وانشغلنا بترتيب أمور البيت ولم أدرس كثيرًا، فوعدني بأني إذا حصلت على معدل يفوق 95% أنه سيعطيني هدية جميلة".
يبتسم صوت "ملاك" بالفعل حصلت على معدل95%، فأحضر لي عقدًا مكتوبًا عليه اسمي، ودائمًا كان يشجعني على الدراسة.
ورغم ما عاشته من فرحة، فإنها بالنسبة إليها فرحة منقوصة "وجود الأب في البيت يشعرك بالأمان، افتقدتُ ذلك كثيرًا، لكن وجود أمي ساعدني على التغلب على شعور النقص، ولولاها ولولا إخوتي لمررت بفترة صعبة في حياتي".
تخاطبُ روح والدها: "أهدي نجاحي إليه، أتمنى أن يكون فخورًا بي، وأعده أن هذه بداية نجاحاتي وبداية لمراحل جديدة ستكون مكللة بالنجاح".
تركَ العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة بصمته على طلبة الثانوية العامة، "ملاك" أيضًا عاشت أحد عشر يومًا صعبًا، تدخل في تفاصيلها: "كنت قد وضعتُ جدولاً دراسيًا، بأن أتم دراسة ثلاث مواد خلال أيام العدوان، لكني لم أستطع دراسة شيء من شدة القصف".
"أمضيت الوقت في أحضان أمي، لم أستطع تركها والجلوس بغرفتي وحيدة للدراسة، فأجواء القصف كانت مخيفة".
تستحضر تلك الأيام "كلما حاولت الإمساك بالكتاب لأقرأه، كانت أصوات الصواريخ والشهداء والجرحى تجعلني أتركه".
تخططُ "ملاك" التي تقف على بوابة المستقبل لدراسة ترجمة اللغة الإنجليزية، تريدُ مخاطبة العالم بأوجاع المفقودين، وإظهار مظلومية الشعب الفلسطيني، وأبناء الشهداء الذين دفعوا حياتهم ثمنًا في سبيل كفاحهم ومقاومتهم الاحتلال، تريد أن تكون لسان أبناء الشهداء للعالم.