درست (إسرائيل) خياراتها جيداً بعد رد المقاومة اللبنانية (أمس) الجمعة على اعتداءاتها. بدا أن هذه الخيارات محدودة وأن لا مصلحة لديها في تصعيد الوضع. حتى الساعة يبدو أن الملف أُغلق على ما يورد معلق الشؤون العسكرية في القناة 13 العبرية ألون بن دافيد. فهم كيان العدو أن أي رد من قبله، يتجاوز قواعد الاشتباك، على الصواريخ التي أطلقتها المقاومة، سيواجه برد متناسب. كان لافتاً في هذا الإطار أن الاحتلال لم ينفذ أي غارة ولم يطلق أي قذيفة تجاه الأماكن التي انطلقت منها صواريخ المقاومة، كما أشار بيان حزب الله الصادر بعد الرد.
بدا لافتاً أيضاً وخلافاً لجولات وحوادث سابقة بيانات الدعم والتبريك من قبل فصائل وشعوب المقاومة في اليمن والعراق وفلسطين على وجه التحديد، بما يوحي باستعداد هذه الجبهات وتوثبها، وبأن زمن عزل ساحات المقاومة عن بعضها قد ولّى.
بدأ الأمر بإطلاق أربعة صواريخ الأربعاء الفائت، يوم 4 آب/أغسطس، تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة انطلاقاً من جنوبي لبنان. نقلت وسائل إعلام إسرائيلية تقديرات عن مسؤولين إسرائيليين تفيد بوقوف تنظيم فلسطيني خلف العملية.
كان بإمكان أصحاب القرار في (إسرائيل) الاكتفاء برد موضعي ومحدود بواسطة المدفعية على المصادر التي انطلقت منها الصواريخ كما كان يحدث سابقاً، إلا أن (تل أبيب) لم تكتف بذلك. تم تنفيذ غارات طالت عمق الأراضي اللبنانية، في حدث هو الأول من نوعه منذ انتهاء حرب تموز/ يوليو 2006، الأمر الذي ظهر كأنه كسر لقواعد الاشتباك المًكرّسة منذ ذلك التاريخ.
ربما السبب الذي دفع المستوى السياسي في حكومة بينيت إلى ذلك هو دفع الإحراج أمام الجمهور الإسرائيلي، في ظل وجود معارضة إسرائيلية متربّصة على رأسها بنيامين نتنياهو. الخوف من اتهام بينيت بالضعف من شأنه أن يوهن موقف حكومته، لا سيما أن هذه الحادثة تعدّ الخامسة من نوعها منذ أيار/ مايو المنصرم.
إلا أن تكرار حوادث إطلاق الصواريخ المجهولة من جنوبي لبنان هو مسار لا يناسب (إسرائيل) بمعزل عمن يترأس حكومتها. مسار يدفعها إلى التفكير ملياً ويحشرها بين خيارين أحلاهما مرّ، إما التسليم بأمر واقع لا تستطيع التعايش معه لأسباب سياسية وأمنية واستراتيجية، وقد يتفاقم إذا لم تضع له حداً، وإما أن تضع له حداً من خلال إفهام الطرف اللبناني بأن لمثل هذه الأعمال أثماناً مختلفة وأنها لن تتوان عن فعل ما ينبغي لإيقافه. المشكلة التي برزت على هذا الصعيد أن الصواريخ بقيت مجهولة المصدر، فيما الطرف الذي يقف وراءها ظلّ يتراوح في إطار تقديرات وترجيحات، وإن لمّحت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية أن يكون مدفوعاً أو مغضوض الطرف عنه من قبل حزب الله.
جاء الرد الإسرائيلي مدروساً. في الشكل كسر قواعد الاشتباك بما يمكن أن يّسوّق إنجازاً للجمهور الإسرائيلي، ويختبر في الوقت نفسه موقف حزب الله من هذا التعديل، لكنّه في المضمون استهدف مناطق غير مأهولة بما لا يؤدي إلى استفزاز من شأنه أن يؤدي إلى تصعيد وإجبار المقاومة على الرد.
سبق ذلك نقاشات عكستها وسائل إعلام إسرائيلية طوال الفترة الماضية حول تأثير الظروف الذي يمرّ بها لبنان على طبيعة عمل المقاومة. بعض التقديرات تحدثت، وربما كانت تعكس رغبات، عن أن الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يشهده لبنان من شأنه أن يقيّد خيارات المقاومة ويشكّل موانع جديدة تدفعها إلى التساهل والقبول على مضض بتجاوزات إسرائيلية، على اعتبار أن لا مصلحة لحزب الله في دخول حرب يمكنها أن تفاقم الأزمة الداخلية وتشكّل ضغطاً إضافياً عليه. بموازاة ذلك لم يغب عن بال صناع القرار في (إسرائيل)، وكذلك مراكز أبحاثها ووسائل إعلامها، تداعيات معركة "سيف القدس" والخلاصات التي أسفرت عنها، لا سيما على مستوى الردع المتآكل، وصولاً إلى نتيجة أن الحرب ليست أيضاً من مصلحة (إسرائيل).
أهمية ما حدث جنوبي لبنان أنه حسم هذا النقاش وأجاب على الحزورة، لكن ليس من دون أن يترك شطباً على وجه (إسرائيل). خطأ التقديرات الإسرائيلية عكستها أكثر من وسيلة إعلامية إسرائيلية مع تسليط الضوء على تبعاتها الخطيرة. الخبير الإسرائيلي بالشؤون العربية يوني بن مناحم يشير في هذا الصدد إلى أن الاسخبارات الإسرائيلية "فوجئت مرة أخرى من إطلاق الصواريخ على يد حزب الله" وإلى أن الردع تآكل مرة جديدة.
موقع واللا ذكر أشار بدوره إلى خطورة ما حدث من زاوية خطأ التقديرات الاستخبارية الإسرائيلية. الكاتب الإسرائيلي في الموقع طال ليف نقل أن التقديرات الإسرائيلية كانت تتمحور حول أن حزب الله "سيبقى يجلس على السياج ولن يتدخل لكن سرعان ما تبين أنها قراءة غير صحيحة للطرف الآخر"، ليخلص إلى أنه على جيش الاحتلال أن يفحص بعمق طريقة التحليل الاستخباراتي، و"فحص ما إذا لم يكن هناك غطرسة مفرطة في التقديرات بأن حزب الله لن يرد على هجمات الجيش الإسرائيلي".
خلاصة ما حدث لخّصه نائب أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم بحديثه إلى الميادين قائلاً إن "على (إسرائيل) أن تفهم بأن عليها أن تبقى مردوعة وإلا فنحن جاهزون للردّ".
وبانتظار ما سيدلي به الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله (اليوم) السبت تبقى معادلة الردع مُكرسة عند طرفي الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، فيما لا أحد يستطيع أن يضمن بأن تتوقف الصواريخ المجهولة.