عندما اختار الصهاينة اسم (بيغاسوس) لعملية التجسس على الهواتف النقالة، كانوا يستدعون الزمن الماضي لخدمة أطماعهم في الزمن الحاضر، لذلك اختطفت شركة NSO اسم (بيغاسوس) من الأساطير الإغريقية القديمة، والتي تعني: الحصان الأسطوري المُجنَّح، إنه بيغاسوس Pegasus، ذو اللجام الذهبي، الذي شارك في المعارك ضد الوحوش الأسطورية، وعاش في اسطبلات الآلهة "زيوس" وكانت من مهماته حمل البرق، وبذلك توطدت العلاقة بين بيغاسوس والربيع، فأينما وقع حافره على الأرض، انفجر الربيع الخصيب.
وبين البرق الخاطف في التجسس الإسرائيلي على دول العالم دون استثناء، بما في ذلك الدول العربية، والتجسس على الشخصيات السياسية والقيادية، اتسع ربيع الأطماع الإسرائيلية في السيطرة على مقدرات الشعوب، وتمدد نفوذ المخابرات حتى وصل إلى مخادع الحكام العرب؛ الذين سلَّموا أمر أمنهم الشخصي، ومستقبل بلادهم إلى يد عدو شعوبهم الإسرائيلي، فصار الحصان الطائر بيغاسوس رمزًا للتكنولوجيا الإسرائيلية التي تفاخر بها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نتنياهو، وهو يدَّعي توفير المعلومات الأمنية لكثير من الأنظمة العربية.
برنامج بيغاسوس للتجسس في الزمن الحديث يحاكي برنامج الصهاينة للتجسس قبل أكثر من ألفي سنة، حين تمكنت الفتاة "استر" من اختراق حصون ملك فارس، والتجسس على الوزير هامان، والقضاء عليه، وهناك قصة الجاسوس الصهيوني "بولارد" الذي تجسس على أمريكا لصالح حليفتها إسرائيل، وقد تفاخر رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي السابق باختراق المفاعل النووي الإيراني، وتفاخر رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) الجنرال شلومو غازيت، بحصوله على تسجيلات القمة العربية التي عُقدت في المغرب عام 1965.
التجسس، واختراق الحصون الخاصة، وتسلُّق الجدران العالية، واكتشاف أسرار الغرف المغلقة مؤشر على قوة الصهاينة، وبهذه القوة الخفية انتصروا على الجيوش العربية في عدة حروب، ولكنهم عجزوا عن معرفة ما تخفيه المقاومة الفلسطينية في غزة، وكان هذا العجز من أهم الأسباب التي حالت دون الجيش الإسرائيلي وتحقيق أي انتصار على غزة.
لقد اكتشف رجال المقاومة الفلسطينية في غزة أنظمة التجسس الإسرائيلية قبل سنوات طويلة، فقد أدركوا أن جهاز الهاتف النقال مصدر معلومات للعدو الإسرائيلي، فصدرت التعليمات إلى رجال المقاومة بعد عدوان 2009، بعدم استخدام الهواتف النقالة، فالهاتف النقال يزود الطيران الإسرائيلي بالمعلومة عن مكان المقاوم، واستهدافه بالصاروخ، وقد حظر قادة المقاومة في كل اجتماعاتهم مع الإعلاميين والكتاب والصحفيين والوجهاء اصطحاب الهواتف النقالة، وكان يتم إبعادها عن أماكن الاجتماع، وقد دأب أهل غزة على وصف الهاتف النقال بالجاسوس التكنولوجي، ولو تساءل البعض عن كيفية تواصل رجال المقاومة مع بعضهم البعض، في أثناء سير المعارك مع العدو الإسرائيلي، فالجواب المعروف؛ أن هناك شبكة اتصال أرضية، أقامها رجال المقاومة على طريقتهم الخاصة، تُمكِّن المقاومين من التواصل الآمن، وقد حاول العدو ومعرفة ما يخفيه باطن الأرض، ولعل هذه الشبكة أحد مصادر القوة والإعجاز الوطني.
ضمن هذا السياق الذي حرك الرأي العام العالمي ضد برنامج بيغاسوس، وصل وزير الحرب الصهيوني إلى فرنسا، لمعالجة آثار التجسس الإسرائيلي على الرئيس الفرنسي، وشكّلت وزارة الحرب الصهيونية لجنة من عدة فرق لمناقشة الاتهامات الموجهة لبرنامج بيغاسوس، وأزعم أن تشكيل اللجنة يهدف إلى تبرئة المجتمع الزائف من العمل الفاضح، ومحاولة التفافية على المحاكم الدولية لذر الرماد في عيون مؤسسات حقوق الإنسان، التي باتت في اشتباك دائم مع جرائم العدو الإسرائيلي، ضد شعوب العالم، بما في ذلك الشعوب العربية.
ولكن؛ أين هي الشعوب العربية مما يحاك ضدها؟ لماذا تكتفي بالتفرج على الأحداث، ومتابعة تفاصيل الجرائم، دون الدفاع عن مستقبل الأمة؟ لماذا تغيب الحكومات، وتصمت مؤسسات المجتمع المدني عن الفعل ضد الممارسات الصهيونية المعادية للإنسانية؟ وإلى متى؟