على مدار ستة أشهر بدءًا من منتصف فبراير حتى نهاية الشهر الماضي امتدت إجراءات العملية الانتخابية الداخلية لاختيار قيادة جديدة لحركة حماس في أقاليمها الثلاث غزة والضفة والخارج، ومن قبلها أنهت اختيار هيئتها القيادية في سجون الاحتلال، لتعلن اليوم تتويج هذه العملية الانتخابية باختيار إسماعيل هنية رئيسًا لمكتبها السياسي لدورة انتخابية ثانية وفق النظم واللوائح القانونية المعتمدة في الحركة.
استغرقت العملية الانتخابية هذه المدة الطويلة؛ نتيجة وجود الاحتلال الذي يحرص على تقطيع أوصال الشعب الفلسطيني في مناطق جغرافية محاصرة ومتباعدة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما يضاعف من تعقيدات إجراء العملية الانتخابية بسرية تامة بعيدًا عن أنظار الاحتلال، إضافة إلى تشتّت اللاجئين الفلسطينيين من أبناء وقيادات الحركة في عدد من العواصم، وهو تحدٍّ كبير تحرص حماس على تجاوزه مع كل دورة انتخابية جديدة وصولًا إلى ضخ دماء جديدة وانتخاب أطرها القيادية بسلاسة داخل وخارج فلسطين المحتلة.
تجرى انتخابات حماس الداخلية وفق نظام داخلي معتمد من مجالسها الشورية، ولديها لجان قضائية ورقابية تتابع دقائق العملية الانتخابية بإشراف قانوني متخصص، ما يضمن سير ونزاهة العملية الانتخابية، وهذا النظام يوفر لقواعدها التنظيمية حرية اختيار القيادة، وتجدد هذه الدورة الانتخابية بانتظام كل أربع سنوات، يتاح وِفقها للعضو في الحركة الترشح مرتين متتاليتين للمنصب القيادي ذاته، ولا يسمح له بالترشح لدورة انتخابية ثالثة بشكل متواصل.
إتمام الانتخابات الداخلية لحركة حماس بنجاح، في عملية شارك فيها عشرات الألوف من أبنائها دون أن نسمع ضجيجًا إعلاميًّا، أو ظهور خلافات داخلية بين أبنائها أو قياداتها تؤثر في تماسكها التنظيمي؛ يؤكد إيمان الحركة بالعمل الشوري الديمقراطي إيمانًا حقيقيًّا بعيدًا عن التنظير السياسي، فهي قدمت نموذجًا ديمقراطيًّا يُحتذى لجميع القوى والفصائل الفلسطينية، حركةً فلسطينية لا مكان فيها للتفرد بالقرار السياسي، وآلية اتخاذ القرار داخلها وسائل ديمقراطية راسخة.
تؤكد حماس بتجديد الدماء وبث طاقات جديدة في هياكلها وأطرها التنظيمية في مختلف المستويات القيادية داخل الحركة تمسكها بممارسة التداول السلمي للسلطة، وإيمانها بصندوق الاقتراع وسيلة ديمقراطية وسلمية لإتمام ملف المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام السياسي، الذي جاء بهدف إفشال التجربة الديمقراطية الفلسطينية قبل ستة عشر عامًا لحرمان الشعب الفلسطيني اختيار ممثليه الحقيقيين في الشارع الفلسطيني.
حماس وهي تتوج اليوم المرحلة الأخيرة من انتخاباتها الداخلية نجحت في تجاوز تحديات كبيرة واجهت تلك العملية الانتخابية، التي كان من أبرزها اختيار قادة حركتها في سجون الاحتلال بسرية تامة، ويتضمن هذا الأمر جهودًا ومخاطر مع المتابعات الدقيقة للأسرى من جنود وضباط الاحتلال، وأيضًا نجحت في تجاوز الملاحقات الأمنية المزدوجة من أجهزة السلطة والاحتلال، التي تعد تحديًا بارزًا أمام تجديد هياكل الحركة التنظيمية في جميع مناطق الضفة المحتلة.
قيادة حماس الجديدة جمعت في بوتقة واحدة أبناء غزة والضفة والشتات، وكذلك الأسرى في سجون الاحتلال، لتعلن للجميع رسالة وحدة وتكاتف جميع أبناء الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده، وأن الاحتلال الذي يقطع أوصال المدن والبلدات الفلسطينية إلى "كانتونات" محاصرة ومنعزلة بعضها عن بعض، ويشتت اللاجئين خارجها؛ فشل فشلًا ذريعًا في تشتيت وحدة الشعب الفلسطيني وإبعاده عن التمسك بخيار العودة وبناء الدولة المستقلة التي تجمع الكل الفلسطيني.
وإذا نظرنا إلى قيادات حماس التي أعلن فوزها في دورتها الانتخابية الحالية، أو تجديد انتخابها لدورة انتخابية ثانية في الموقع ذاته؛ نجد أنها تتمتع بخبرة سياسية وقبول شعبي في الشارع الفلسطيني، علاوة على امتلاكها علاقات جيدة مع قادة القوى والفصائل الفلسطينية، وعلاقات ودية مع زعامات ونخب سياسية وفكرية متعددة في العالمين العربي والإسلامي.
حماس اليوم بتتويجها انتخاباتها الداخلية تسجل موقفًا وطنيًّا بأنها الأكثر قدرة على قيادة المشروع الوطني الفلسطيني، الذي يضم مختلف المشارب الفكرية والسياسية للفلسطينيين، ويؤمن بالانتقال السلمي للسلطة، وترسل رسالتها للمجتمع الدولي بأن ملايين اللاجئين الفلسطينيين في الشتات الذين يشكلون عصب إقليم الحركة خارج فلسطين المحتلة هم في صميم العمل الفلسطيني المقاوم.
التحديات التي تواجه قيادة حماس
لا شك أن قيادة حماس المنتخبة تواجه تحديات داخلية وخارجية، وتقع على كاهلها أعباء كثيرة، فداخليًّا عليها واجب الدفاع عن القدس، وحماية أبناء شعبنا من تغول جيش الاحتلال ومستوطنيه، ومواجهة مخططات الاحتلال الاستيطانية بتفعيل جميع أشكال المقاومة في الضفة المحتلة، كما أنها تتحمل مسئولية الاستمرار في محاولات إتمام الوحدة الفلسطينية الداخلية، وتجاوز هيمنة تيار محمود عباس على القرار والتمثيل الفلسطينيين، وتعطيل منظمة التحرير الفلسطينية، خاصة بعد التنازلات الكبيرة التي قدمتها قيادة حماس في دورتها السابقة سعيًا نحو إنهاء الانقسام دون جدوى.
تواجه قيادة حماس اليوم تحديات كبيرة وملاحقات مزدوجة ومتواصلة لأبنائها في الضفة المحتلة من أجهزة أمن السلطة الفلسطينية وجيش الاحتلال، إضافة إلى مشاركة السلطة في حصارها سياسيًّا واقتصاديًّا للعام الخامس عشر على التوالي، والحيلولة دون قطفها الثمار السياسية لصمودها ومواجهاتها العسكرية مع الاحتلال في غزة، ما يتطلب منها جهدًا أكبر لتحقيق استثمار سياسي حقيقي، لا سيما لمعركة سيف القدس الأخيرة مع الاحتلال، على صعيد كسر الحصار السياسي والاقتصادي المفروض على غزة، وتحسين الأوضاع الاقتصادية لأهلها، وتعزيز علاقات حماس الخارجية سياسيًّا ودبلوماسيًّا.
كما تتحمل قيادة حماس عبء مواجهة موجة التطبيع العربي مع الاحتلال، وموجة التأليب على المقاومة الفلسطينية، الذي يتصدر زعامته بعض الأنظمة العربية، وفي مقدمتها النظام الإماراتي المتحالف مع الاحتلال.
وختامًا يأمل الفلسطينيون من قيادة حماس الجديدة أن تنجح في دورتها الحالية بإنجاز صفقة تبادل مشرفة مع الاحتلال، وهنا نقدم نصيحتنا لهذه القيادة الوطنية أنها ربما باتت بحاجة ماسة إلى إعادة التفكير في آلية التفاوض غير المباشر من طريق وسطاء مع الاحتلال، مع عدم حدوث اختراق حقيقي على صعيد الأوضاع المعيشية لأهالي غزة، وتصاعد عدوان الاحتلال على أبناء شعبنا في القدس والضفة المحتلتين، وعدم اقتناع غالبية الشعب الفلسطيني بحيادية الوسطاء، كما إننا ندعوها إلى تشكيل جسم تنظيمي فني أو فريق تفاوضي متخصص، يتمتع بمهارات وقدرات عالية في عملية التفاوض مع الاحتلال.