بين حادثة انسحاب لاعبَي الجودو، الجزائري فتحي نورين، والسوداني محمد عبد الرسول، من دورة الألعاب الأولمبية بطوكيو؛ (لكي لا يكونا في منافسةٍ مع لاعبين إسرائيليين)، في مقابل إصرار المصارعة السعودية، تهاني القحطاني، على المنافسة مع لاعبة إسرائيلية، ولاحقًا أعلن اللاعب اللبناني، عبد الله منياتو، انسحابه من بطولة العالم في الفنون القتالية، بعد أن وضعته القرعة في مواجهة لاعب إسرائيلي، في البطولة المقامة في بلغاريا.. بين هذه المواقف وحادثة لغوية قديمة، علاقةٌ جوهرية؛ ففي المناظرة الشهيرة بين إمام مدرسة البصرة سيبويه، وإمام مدرسة الكوفة الكسائي، وردت عبارةٌ دالّة، جاءت على لسان الأعرابيِّ الذي جِيء به؛ ليكون حَكَمًا بينهما، إذ قال حين طُلِب منه تغيير رأيه؛ لمناصرة الأخير منهما؛ بأن يجيب بأنَّ الصواب: "كنتُ أظنُّ أنَّ العقربَ أشدُّ لسعةً من الزُّنْبُور، فإذا هو إيَّاها"، في حين كان اعتيادُ لسانه الطبيعي أنْ يقول "فإذا هو هي"، ردَّ الأعرابيّ بالرفض: "لا يطاوعني لساني"؛ تلكم ثنائية الأُلْفة والإنكار؛ الألفة النفسية، في ممارسة لغته، وكلامه، بما تعنيه اللغة الأمُّ لصاحبها؛ وجدانيًّا، وتعبيريًّا، وبما يعنيه الخروج عليها، عن وعيٍ وتقصُّد، من اصطناع واغتراب.
وهنا أيضًا، الموضوع وجدانيُّ مستقرّ في وعي هذا اللاعب الجزائري، ثم في تاليه، لاعب الجودو السوداني (من دون أن يعبأ بما أبرمه حكَّام بلده من اتفاقية مع دولة الاحتلال)، هذا المعنى العُلْويُّ هو الذي تغلّب على مكوِّن آخر، ذاتيٍّ، ووطنيٍّ، عزيزٍ هو الآخر، في هذين الرياضيَّيْن؛ (استمرارًا لانسحابات رياضية عربية، بدأت منذ عام 1991)، بما يعنيه ذلك من حلمٍ حثيث، وطُموح مضنٍ إلى المجد، لهما شخصيًّا، ولبلديهما العربيَّيْن. لكنهما رأَيَا أنّ شرف الذات، وشرف الوطن، أعلى من شرف الفوز الرياضي.
قال لاعب الجودو الجزائري فتحي نورين إنه حضَّر للمنافسة في الأولمبياد، وتدرَّب، سنوات، إلا أنه اتَّخذ قراره بعدم المشاركة، عندما أوقعته القرعة، في أول نِزال، مع لاعبِ (إسرائيل)؛ نصرةً للأقصى والقضية الفلسطينية. وقد زهِد بما يتوقّع خُسْرانه، ذاتيًّا، ففي مقابلة مع "الجزيرة مباشر"، قال: "إنَّ قرار الاتحاد الدولي للجودو بإيقافه، بعد الانسحاب من المشاركة كان متوقَّعًا، إلا أنه غيرُ نادمٍ على قراره، وسيكرِّره كلَّما اقتضى الأمر".
هنا نستذكر ما قاله رئيس وزراء الاحتلال السابق، بنيامين نتنياهو، أنّ العقبة الحقيقية التي تواجه التطبيع هي الشعوب العربية. ولاعب الرياضة الذي يمثِّل بلاده، في هذا المحفل الرفيع، عالميًّا، هو مِن أشدّ السياقات رمزيةً وتمثيلًا للشعوب والبلاد والأوطان، فالخلاف بيننا وبين دولة الاحتلال ليس مجرّد خلافٍ سياسي، كما تحاول الدعاية الصهيونية تصويره، كما جاء في مقطع فيديو بين لاعبِ الجودو الإيراني المعارض فاهيد سارلاك ومدرِّب إسرائيلي؛ من حديثٍ عن تقديم الاهتمام بالناس على السياسة، وعن إبعاد السياسة عن الرياضة، في دورة الألعاب الأولمبية في طوكيو؛ في محاولة تضليل ومغالطة واضحة.
ولم يخفِ معلِّقون إسرائيليون انزعاجهم من هذه الانسحابات العربية، أوضحتها صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية بالقول: "العرب يجعلون منّا أضحوكة بانسحابهم أمام لاعبينا، توجد كل أنواع اتفاقات السلام والحبر الذي يكاد ينتهي بالطابعة من كثرة النسخ، أما على الأرض فيثبت الرياضيون العرب أن (إسرائيل) بنظرهم ليست موجودة". وبدرجة أخفّ انزاحت الرؤية لدى بعض العرب؛ ليروا في المنافسة الرياضية فرصةً للنّيل من (إسرائيل)، في هذا المضمار، وكأنهم يقولون: إذا لم ننتصر عليها عسكريًّا، وسياسيًّا، فليكن انتصارًا رياضيًّا. وفي هذا إغفال لمعنى اللقاء الذي يعني ضمنًا الاعتراف بتمثيل الخصم للدولة التي ينتمي لها، فلا أهمية، ولا دلالة، بعد ذلك، لـ "أيهما الفائز؟". وللأسف، حتى هذا الانتصار الرياضي المشتهى لم تحققه اللاعبة السعودية التي تقبلت خسارتها الكبيرة، أمام منافستها الإسرائيلية بنتيجة 0 - 11.
من المعروف أن اللاعبين الإسرائيليين إنما يمثِّلون دولة الاحتلال، بكلِّ ما تعنيه من معاني وجودها، في الأساس، على أنقاض فلسطين، وشعبها الذي هُجِّر، واحتُلَّت بلادُه، وفيما تعنيه، الآن؛ من استمرار لمعاني النكبة، كما في حيِّ الشيخ جرّاح، وسلوان، في القدس، وغير ذلك من مشروعات الاستيطان والاستعمار الذي يزداد شراسة، في الضفة الغربية المحتلة، ويتعمَّق أيديولوجيا، وسياسيًّا. وأجْدَدُ تلك المشروعات ما يُعرَف بمشروع "مركز المدينة" الذي تعتزم (إسرائيل) تنفيذه، في مدينة القدس الشرقية المحتلة، والذي حذّرت منه الخارجية الفلسطينية، بوصفه "جزءًا لا يتجزَّأ من مخطَّطات تهويد القدس، وطمس هُويَّتها، وتغيير معالمها، وطابعها التاريخي والحضاري والثقافي، بما يخدم روايات الاحتلال".
واللافت في انسحاب اللاعبين، الجزائري ثم السوداني، أنه تعبير عن الذات العربية، وعن الشعوب، وليس بالضرورة جاء استجابةً لطبيعة الموقف الرسمي، لكلٍّ من الجزائر والسودان، فالأولى لا تزال غير مطبِّعة، والثاني طبّعت حكومتُه، ضمن ما عُرِف باتفاقيات أبراهام. ولعل أخطر ما في أمر هذه اللقاءات الرياضية أنها تندرج في خطة وزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كيسنجر، التي سمَّاها سياسة الخطوة خطوة، فهي ترجو أن تكسر الحاجز النفسي بين العرب ودولة الاحتلال؛ هذا الحاجز النفسي غير الناتج من فراغ، وإنما المبني على مسألةٍ لم تكن يومًا محلَّ جدل، أو خلاف، في العالم العربي والإسلامي، على الأقل، بضرورة مقاطعة دولة الاحتلال، وكلِّ ما يصبُّ في تعزيز وجودها العالمي، السياسي، أو في تقوية اقتصادها، وهي الدعوة التي لا تنفرد بها الشعوب العربية التي لا تزال فلسطين في وجدانها، وإنما تتقاطع معها مؤسَّساتٌ أكَّاديمية، وجامعات عالمية، وأميركية، واتحادات طلبة، وآلاف من الأكَّاديميين، وشركات إنتاجية، كما جاء في إعلان شركة آيس كريم، بن آند جيري، العملاقة، والتابعة لمجموعة يونيليفر، ومقرُّها ولاية فيرمونت الأميركية، ويملكها يهود أميركيون، أخيرا، أنّها ستتوقَّف عن تسويق منتجاتها في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وتحديدًا الضفّة الغربيّة والقدس الشرقيّة؛ لعدم توافق ذلك مع "قيمها".
هذه المواقف المقاطِعة من رياضيِّين عرب ليست انفعاليَّة، ولا هي نابعة من مجرّد الجفاء الطويل، زمنيًّا، وإنما هي نابعةٌ من أسبابٍ موضوعية أساسية، تقوم على النظرة إلى هذا الكيان القائم على العدوان والمشرَّب بالعنصرية غير الخافية، ولا المَخفيَّة. وتأتي هذه المقاطعة على الرغم من حالة السيولة، حتى لا نقول الميوعة الرسمية العربية، تُجاه المخاطر المحدقة بفلسطين، حيث تحاول إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، (بعد كلِّ هذه العقود)، استعادةَ سياسة الخطوة خطوة؛ من خلال الترتيب للقاءات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ليس الهدف منها إحياء المفاوضات السياسية، بحسب المبعوث الأميركي، هادي عمرو، إنما "الانخراط في حوار ثنائيّ؛ من أجل دفع إجراءات لبناء الثقة"، وأنّ العمل الجاري الآن على مناقشة قضايا ماليّة وخِدْماتية، فيما الوقت يعمل لصالح دولة الاحتلال، وتكريس مشروعاتها التي تهدف إلى إحداث وقائع بنيوية على الأرض الفلسطينية.