"سيرة الأبطال ليست ملكاً لهم أو لذويهم وأحبائهم.. بل هي لفلسطين تعلِّمها للأحرار الشرفاء، تلقنها للأشبال يرون من خلالها العزة والكرامة أمثلة مضيئة تحيا بشموخ لا يعرف الاستسلام.. وبلال أبو غانم ابني مدرسة أتركها بين أيديكم لتتعلموا منها، ليس لأنه ابني، بل لأنه نموذج يُحتذى به وقدوة لمن يريد الاقتداء".
"قهروني.. وعلَّمِت عليهم" عبارته المزلزلة هذه قالها لي في زيارتي الأولى له في الأسر، جعلتني أستحضر في ذاكرتي كل عناد بلال وإصراره وكل سنوات القهر الذي عايشه في الوطن المبتلى بالاحتلال، الذي كنت ألمحه حزناً في عينيه وألماً يتسلل بين حروف كلماته وصمته؛ لذا لم أُفاجأ بما فعله أبداً، بل كنت أُعدُّ نفسي لاستقباله منذ مدة طويلة.
"بلال دمه حامي" أعرفُ ذلك جيداً.. يثور أمام مشاهد الاعتداء على المرابطات في المسجد الأقصى وعلى الأطفال في القدس.. في اليوم الذي أحرق فيه المستوطنون عائلة دوابشة في قرية دوما تأكدتُ أن بلال سينتقم لدمائهم بطريقته الخاصة، أما الشعرة التي قصمت ظهر البعير ودفعته إلى المضيِّ قُدماً فيما فعل برفقة صديقه بهاء عليان، فهي صورة الطفل أحمد مناصرة ابن الثلاثة عشر عاماً وهو مُلقى على الأرض حياً غارقاً بدمائه، يشتمه المستوطنون ويدعون جيش الاحتلال لقتله ويضربونه بأرجلهم بعد أن دعسته سيارة مستوطن، ومرت عربة ما تسمى "نجمة داود الحمراء" للإسعاف من أمامه دون أن تقوم بما عليها من تقديم الإسعاف الأولي له ورعايته طبياً ونفسياً.. وكأنه ليس ببشر! ويوجهون له اتهاماً بأنه كان بصدد تنفيذ عملية طعن برفقة ابن عمه، ثم تسريب مقطع فيديو للمحقق يضغط عليه ويصرخ به لدفعه للاعتراف بما يريد، وهذا الشبل يصرخ باكياً وهو يضع يديه على رأسه ويقول:" مش متذكر.. مش متأكد".
ضرب بلال الجنود على بوابات الأقصى مرات عدة خلال دفاعه عن المصلين والمرابطين، الأمر الذي قاده للأسر ليمضي فيه 14 شهراً، ولكن ذلك لم يخلف لديه إلا مزيداً من الإصرار. أحياناً كنت أحذره من الاندفاع، فيحلف لي محاولاً بثَّ الطمأنينة في لهجته، فتداخلني الهواجس؛ لأنني أعرفه أكثر مما يعرف نفسه، وأثق تماماً بأنه لن يتوقف عن العمل! ما معناه بأنه مقبل على الشهادة هذه المرة!!
في المساء سألني عن بلوزته الخضراء، وطلب مني أن أغسلها، فقلت له: خذ غيرها.. فقال: لا، أريدها غداً لمشوار ضروري. غسلتها وتركتها تجف دون أسأله عن المشوار الضروري، ولم أكن أعلم أن هذا المشوار سيغير حياة بلال!
خرج في سبيله في الصباح يقصد محل الكوكتيل الذي يعمل فيه، أو هكذا طننتْ! كنت خارج البيت أيضاً لقضاء بعض الحاجيات حين تناهت إلى سمعي أنباء عملية مقاومة في جبل المكبر، وخزني قلبي وشعرت بأن للأمر علاقة بي، أخرجت الموبايل من حقيبتي واتصلت ببلال.. المرة الأولى لم يرد، وكذلك الثانية، والثالثة... حتى الخامسة.. ليتيقن قلبي حينها من هوية المنفذ.
وقفت أمام أحد المحلات أرقب البث المباشر على شاشة مثبتة على جدار المحل في الداخل، شرطة الاحتلال تملأ مكان العملية، سيارات إسعاف، صحافة تصور الحدث، وصحفيون يُقدمون تقارير عن العملية لشبكاتهم الإخبارية، قال الصحفي: شابان فلسطينيان دخلا الحافلة رقم 78 في مستوطنة أرمون هنتسيف المقامة على أراضي جبل المكبر، كان المفترض أن تتجه الحافلة إلى محطة الباصات المركزية في القدس، حمل أحدهما سكيناً أخذ يطعن به المستوطنين داخل الباص، والآخر كان يطلق النار من مسدس يحمله! الصحفي ما يزال يتحدث، حين اتجهت عدسة الكاميرا إلى داخل الباص بمثل لمح البصر.. دماء على أرضية الباص، وشاب مُلقى أرضاً.. ابتعدت عدسة الكاميرا بالسرعة ذاتها التي تسللت بها للداخل، وعادت إلى خارج الباص، ولكنها لم تغادر تلافيف ذاكرتي.. أيكون هو؟؟ إنه يرتدي بلوزة خضراء!! أنا متأكدة أنه هو ولا أحد غيره!
تماسكتُ.. شعرتُ بتضارب غريب خلَط أفكاري بمشاعري وخلَّف في أعماق روحي مزيجاً غامضاً من الإحساس بالضياع والفراغ والفخر في الوقت ذاته.. سارعت بالعودة إلى البيت أبحث عما يُسكن روحي: فعلها بلال إذن؟!
وبدأت الفضائيات تبثُّ تفاصيل العملية.. استشهد رفيقه بهاء عليان وهو الذي كان يحمل السكين يطعن بها المستوطنين داخل الباص، وأصيب بلال بجراح بالغة، وهو الذي كان يحمل مسدساً يطلق منه الرصاص.. الحصيلة الأولية للعملية: قتل 3 مستوطنين وجرح أكثر من 20.
علمت لاحقاً أنهم سحلوه وهو غارق بدمائه، شظايا الزجاج تنغرس في جلده ورصاصات أربع تستقر في أماكن مختلفة من جسده إحداها استقرت داخل رئته. واستشهد رفيقه بهاء عليان وصودرت جثته واحتجزت في الثلاجات (مقابر الأرقام) قبل أن يُسلِّمها الاحتلال لوالده بعد سنة تقريباً ويفرض عليه دفنها في مقبرة المجاهدين في البلدة القديمة تحت جنح الظلام وبحضور عدد قليل جداً من المشيعين.
قال بلال للصحافيين في المحكمة: ما فعلناه كان رداً على اعتداءاتهم على نسائنا وأقصانا. وعندما طلب منه القاضي أن يقف للجنة القضاء قبل تلاوة الحكم، رفض الوقوف قائلاً: لا يستطيع كيانكم أن يجعلني أقف لمحكمة عسكرية لا أعترف بشرعيتها، الأمر الذي أثار حنق القاضي، فأصدر بحقه حكماً جائراً بالسجن ثلاثة مؤبدات و60 سنة إضافية (أي ما مقداره 257 عاماً)، وغرامة مالية مقدارها مليون و900 ألف شيقل يدفعها للضحايا وأهلهم وتعويضاً لسائق الحافلة، كما صدر عليه حُكم بسحب هوية القدس منه، وإخلائنا من البيت الذي نستأجره في العمارة التي نسكن طابقها الثالث، فاضطررنا إلى أن ننتقل للسكن في بيت بسيط سقفه من المعدن.
في رسالة له من داخل سجنه قال بلال: نحن لم نقتل لمجرد القتل، بل حرصنا على ألا يكون القتل عشوائياً، لقد أنزلنا مجموعة من الأطفال وكبار السن قبل الشروع في تنفيذ العملية.. عمليتنا جاءت للرد على اقتحامات المسجد الأقصى، واستهداف النساء من قوات الاحتلال ومستوطنيه الذين استهدفناهم في الحافلة.
لا أسمح لزيارة بلال بأن تفوتني، وبخاصة أن والده وإخوته ممنوعون من زيارته، أتحمل مشقة السفر من الساعة الخامسة صباحاً حتى الساعة التاسعة مساءً، وأصبر على التفتيش المهين المرهق؛ لأراه لمدة 45 دقيقة شهرياً من خلال زجاج سميك وأتحدث معه عبر هاتف يُسمعني صوته الحبيب.
في الأسر يُعلم بلال أصحابه القرآن، كما كان يعلِّمه لأشبال جبل المكبر، بعد أن تعلَّمه على بلاط الأقصى في طفولته؛ ما جعله مرتبطاً به محباً له، لا قِبَل له بالابتعاد عنه.. مؤمناً بأن الاحتلال إلى زوال.
ستتكرر حكاية بلال على أيدي أبطال لا يستسلمون ما دام الاحتلال البغيض يمارس عدوانه وشراسته على فلسطين وأهلها، ويحاصر غزة ويخنقها، ويدنس المسجد الأقصى وينتهك حرمته، ويعتدي على الأطفال والحرائر.. أما بلال فسيخرج من الأسر على أيدي المقاومة الطاهرة التي لا تغمض عينيها ما دام الأسرى يملؤون سجون المحتلين.