فضيحة التجسس الإلكتروني الواسع التي كشفها تحقيق استقصائي أجرته منظمة "قصص محظورة" بالتعاون مع سبع عشرة مؤسسة إعلامية، ومشاركة فريق صحفي ضمّ أكثر من ثمانين صحفيًّا من عشر دول عبر العالم، يؤكد من جديد بأن دولة الاحتلال تسخّر أدواتها التقنية والاقتصادية لممارسة انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، والاعتداء على خصوصية الأفراد والمجتمعات، وتشجيع الأنظمة القمعية والديكتاتورية عبر العالم على انتهاك القانون الدولي عبر ملاحقة المعارضين السياسيين بطرق غير مشروعة.
ما كشفه التحقيق من قيام شركة "NSO" الإسرائيلية المالكة لبرمجية "بيغاسوس" بمساعدة العديد من الأنظمة الدكتاتورية في اختراق أكثر من خمسين ألف هاتف خلوي عبر العالم، دق ناقوس الخطر من سياسات الاحتلال الرامية إلى استخدام التقنيات الحديثة في التعدّي على خصوصيات الآخرين، وابتزازهم، وتكميم أفواههم، وفي ذات الوقت جمع أكبر كم ممكن من المعلومات السرية والخاصة، وتوظيفها لتعزيز قدرات الاحتلال الأمنية والاقتصادية والسياسية عبر العالم.
الإعلان عن استخدام بعض الأجهزة الاستخبارية لبرمجية "بيغاسوس" في اختراق هواتف زعماء وسياسيين بارزين مثل الرئيس الفرنسي، والملك المغربي، والرئيس العراقي، ومسؤولي التكتلات والأحزاب اللبنانية، وعدد من الصحفيين، والنشطاء، والمعارضين السياسيين في مختلف الدول، يشير إلى أن ما نُشِر حتى اللحظة يمثل الصفحة الأولى من فضيحة دولية قد نطّلع على تفاصيلها وتداعياتها السياسية والدبلوماسية خلال الأشهر المقبلة مع نشر المزيد من المعلومات حول الجهات التي تعرضت للاختراق والتنصت طيلة السنوات الماضية.
فضيحة "بيغاسوس" تدفعنا للبحث عن البيئة الخصبة التي أنشأت مثل تلك البرمجيات الخبيثة، وهنا نجد أنفسنا أمام شركة "NSO" الإسرائيلية، التي أنشأها خريجو الوحدة "8200" التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان"، إلى جانب مئات الشركات المتخصصة في مجال التكنولوجيا وأمن المعلومات، التي تروج لها دولة الاحتلال بأنها الأكثر قدرة على توفير الحماية التقنية، وجمع المعلومات الأمنية، واختراق أنظمة الحماية الإلكترونية على الحواسيب، والهواتف الخلوية باستخدام برمجيات متقدمة ما زالت تجهل طبيعتها أجهزة الاستخبارات الدولية وكبرى الشركات التقنية الدولية.
تُعد الوحدة الاستخبارية "8200" التي تمتلك قاعدة تجسس إلكتروني متقدمة في منطقة النقب بمنزلة الذراع التقنية الضاربة لدولة الاحتلال، وهي تقف وراء الحرب الإلكترونية الخفية والمتواصلة التي تشنّها دولة الاحتلال على أعدائها في المنطقة، وهي تضم الآلاف من النخب الإسرائيلية الشابة المتفوقة دراسياً، التي تتمتع بذكاء اجتماعي، وتُختار بعناية وفق اختبارات معقدة وتقنيات أشبه بالألغاز، وتُخضَع طيلة سنوات إلى برامج تدريبية تقنية متخصصة، تؤهلها لامتلاك قدرات عالية في مجال الرصد، والاختراق الإلكتروني، والتنصت، وجمع المعلومات وتحليلها.
نجحت دولة الاحتلال على مدار السنوات الماضية في تخريج آلاف المجندين من الوحدة "8200"، الذين أضحوا خبراء تقنيين في أنظمة الحماية وجمع المعلومات، ونجحوا في إنشاء شركات تقنية، وتصميم برمجيات إلكترونية متقدمة، ما جعل كبرى الشركات التقنية عبر العالم تتنافس في التعاقد معهم واستيعابهم، بعدهم كنوزاً تقنية تمتلك الخبرة الإلكترونية والمعلومات الاستخبارية السرية، وهي عوامل ساعدت دولة الاحتلال على اختراق كبرى شركات التقنيات العالمية، والاطلاع على برمجياتها الخفية المتقدمة، وعادت بالنفع الاقتصادي والأمني والدبلوماسي على دولة الاحتلال.
وبالعودة إلى برنامج "بيغاسوس" يجدر بالذكر أننا نتحدث عن برمجية واحدة فقط من بين مئات البرمجيات التقنية الخفية التي أنتجها خريجو الوحدة "8200" التي تنتشر عبر العالم، ولكنها ما زالت مجهولة بالنسبة إلى الكثيرين، وهي برمجية تسلط الضوء على الدور الأمني الخبيث الذي تقوم به دولة الاحتلال ومجندوها التقنيون في مختلف الدول، فجميع المعلومات التي نجحت مختلف الأجهزة الاستخبارية والأنظمة القمعية في الحصول عليها من خلال برمجية "بيغاسوس"، هي أضحت موجودة لدى دولة الاحتلال من خلال الخوادم الرئيسة لشركة "NSO" الإسرائيلية المالكة لبرمجية "بيغاسوس"، وجميع الخبراء الإسرائيليين العاملين في كبرى الشركات التقنية عبر العالم باتوا مطّلعين على التقنيات الإلكترونية المتقدمة التي تجهلها دولة الاحتلال، بما يعزز من قدراتها التقنية والأمنية، وجميع المنتجات التقنية التي قامت الشركات الإلكترونية الإسرائيلية ببيعها لشركات تقنية دولية باتت تمتلك القدرة على الوصول إلى المنتجات التقنية لتلك الشركات الكبرى، وفي المحصلة نجد أن دولة الاحتلال باتت في مصافّ الدول التي تمتلك تقنيات إلكترونية متقدمة، بما يحقق لها إيرادات سنوية تُقدّر بمليارات الدولارات.
ربما يجدر بنا نحن الفلسطينيين ونحن نتابع تداعيات هذه الفضيحة الدولية على دولة الاحتلال أن نسلط الضوء على انتهاكها خصوصية جميع أبناء الشعب الفلسطيني، فهي تستطيع وبسهولة الوصول إلى جميع المعلومات في الهواتف الذكية والحواسيب العاملة في الضفة وغزة، بعدِّها تسيطر على الخوادم الرئيسة لشبكات الاتصال والإنترنت التي يستخدمها الفلسطينيون، وهذا يستدعي من الجهات الرسمية والحقوقية الفلسطينية المطالبة بالانفصال التقني عن دولة الاحتلال، والبحث عن بدائل إلكترونية وتقنية من خلال الدول العربية المحيطة.
ختاماً ومع توقعاتي بأن دولة الاحتلال التي اعتادت انتهاك القانون الدولي، أن تتجاوز هذه الفضيحة وتنجح في امتصاص تداعياتها السياسية والدبلوماسية من خلال التكتلات اليهودية واليمينية المسيحية الداعمة للاحتلال في الولايات المتحدة وأوروبا، التي تتمتع بثقل سياسي واقتصادي كبير، فإن هذه الفضيحة تكشف زيف دولة الاحتلال التي لطالما روّجت لنفسها بأنها واحة الديمقراطية في المنطقة، فهذه الفضيحة كشفت بوضوح بأن كيان الاحتلال ما هو إلا برمجية خبيثة تنشر فسادها وإفسادها ليس في المنطقة العربية فقط، بل وفي جميع دول العالم.