في منتصف الليل دقَّ قلبها، بعد رجفةٍ اجتاحت روحها، بسرعةٍ أمسكتْ الهاتف تتمتم مع نفسها: "يا رب يكون نزار موجودْ!"، كان صوتها المنبعث من سماعة الهاتف مهزوزًا كمسن لا يستطيع الثبات: "كيف حالك؟ حاسة أنه في اشي راح يصير"، امتصَّ زوجها نزار المتواري عن أنظار أجهزة أمن السلطة مخاوفَها، كما في كل مرة: "تخافيش، هدول جبناء.. مش راح يصير اشي".
أطلقت زفيرًا حارًّا يخففُ ما ازدحم بداخلها، فأيقظها من صمتها: "حاسة انه الليلة حتيجي أجهزة أمنية على البيت و.."، قطع حديثها بعدما سمع صوت اختناق أنفاسها المتقطعة، وأعطاها تعليمات مختلفة عن كل مرة "ما تفتحي لهم الباب، واحكيلهم روحوا اقبضوا على اللي طخوا على البيت المرة الماضية".
- ماشي، إن شاء الله خير.
ومسحت دموعها خلسةً، التي لم يَرَ فيها توسلات عينيها..
أما هو فتحركت أحباله الصوتية بعد أن اطمأن على أحوال أولاده، وأعطاها بشارةً: "احنا حنكون سبب في كشف كتير من الفاسدين اللي مخبيين"، لم تبقَ صامتة، قاطعته: "بس دير بالك على حالك الفترة هاي، واحنا حنكون مناح".
- ربنا غير يكشف كتير شغلات الناس مش عارفاها، واحنا حنكون سبب في تغيير الواقع اللي الضفة الغربية بتعيشه.
بينما كان نزار ينهي حديثه بتلك الكلمات بعدما قطع ستار صمته، كانت دمعات زوجته "جيهان الحروب" تطير من عينيها كفراشات هاربة، لكن ابتسامةَ صوته غيرت مجرى الحديث: "صوريلي ماريا (ثلاثة أشهر) وهي صاحية!" يحاول تبريد نيران شوقه لطفلته الرضيعة، فمنذ شهر لم يحتضنها ولم يكحل عينيه برؤيتها، لكن ماريا كانت نائمة تغط في نومها على أمل أن تكبر في حضنه، لتبقى هذه آخر مكالمة جرت بين نزار وزوجته، قبل ساعات من اغتيال عناصر من أجهزة أمن السلطة له في 24 يونيو/ حزيران الماضي.
ابتسم صوتها من بقايا حطام الفقد والحزن اللذين يحاصرانها منذ 23 يومًا على رحيل نزار، قائلة لصحيفة "فلسطين": "لا أستطيع استيعاب أن نزار قد رحل، وذهب ولن يعود (..) كل يوم أحاول إقناع نفسي أنه فارق الحياة، في كل يوم يغلبني النسيان وأنتظر عودته في وقت متأخرٍ، إلا أني سرعان ما أفيق على الحقيقة المرة الموجعة للقلب أنه رحل ولن يعود".
عيد دون حلوى
طقوس نزار في استقبال العيد أيضًا كانت مميزة، فقبل يومين من حلوله يصطحب أطفاله للسوق ويتناولون الحلوى، ويشتري لهم ملابس العيد وألعابًا، يذهب لزيارة الأقارب، "ثاني يوم كان يصطحبهم لحديقة الألعاب، فكان حنونًا، كان الأب المثالي لهم يعيشهم فرحة العيد على أكمل وجه" تلمع صورة نزار من أحد المواقف التي احتفظت بها زوجته على جدران قلبها.
لم تره في العيدين الماضيين، فقد كان مطاردًا من أجهزة أمن السلطة، ولم تستطع الذهاب إليه لرؤيته، لأنها هي الأخرى كانت تحت مجهر المراقبة في كل خطواتها، وفضلت حبس أشواقها داخل قلبها، على أن تذهب إليه وتكون سببًا في القبض عليه، لكنهم اغتالوه، ليأتي العيد الثالث بعد عيدين من المطاردة ولكن برائحة الفقد.
مخاوفها من هذا الفقد عبرت عنها في إحدى المكالمات الأخيرة: "والله خايفة ما تعيّد معنا بعيد الأضحى" أما هو فكان اعتقاده غير ذلك: "لا، إن شاء الله عما قريب راح أكون بينكم، وأروح على البيت وينبسطوا الأولاد"، تشعر بوجع قلبها وهي تعلق عائدة بذاكرتها للوراء: "ما كنت متوقعة لو لثانية انه ما حيقضي العيد معنا، لكن للأسف كان عيد النهاية، بقينا على أمل حتى ولو مطارد بأننا سنزوره، لكن للأسف سنزوره في قبره".
في أول يوم للعيد، ستنظر جيهان إلى المقعد الذي كانت تحتسي فيه القهوة مع نزار بعدما يستيقظ وتأكل معه حبة شوكولاتة، ستفتقد "المسرحية الكوميدية" وكانت مائدة للمة الأسرية، ولن تجد إلا صورة لضحكته علقتها على جدار قلبها، تذكرها أنه رحل كلما حاول النسيان أن يغلبها.
تفتقد جيهان طلة نزار وإشراقة ابتسامته على مواقع التواصل الاجتماعي بترحيبه المعتاد "تحياتي للجميع" ومن ثم يدخل بموضوعه الجديد مع كل مقطع ينشره، ذو العينين الخضراوين بجاذبية النمور، والملامح القوية، يتقوس حاجباه للأعلى، كجناحي صقر ينقضُّ على فريسته، فقد كانت ملامحه تمهد لإخراج نبرته الحادة كنصل سيف ينغرس في قلب الخنوع، فكانت كلماته أشبه برصاصات.
مريم التي لم تقتنع بعد!
قبل أيام، طلبت طفلة نزار مريم ذات الأعوام الأربعة التي دخلت في أزمة نفسية بعد اغتيال والدها، طلبًا غريبًا من والدتها، تدخل الأم في قلب تفاصيله: "بتحكيلي افتحي على فيديوهات بابا، وضلينا للفجر وهي بتتفرج، وطلبت تشوف آخر فيديو لوالدها، والحقيقة تفاجأت بالطلب".
بكلمات طفولية بريئة بررت مريم طلبها: "بدي أشوف بابا كيف كان بآخر فيديو شو عمل فيه" وكأنَّها تريد أن تستمع للكلام الأخير الذي اغتيل لأجله والدها، حتى هذه الطفلة لم تستوعب حتى الآن فكرة رحيل والدها لأجل كلام قاله، تجمدت كل المشاعر في قلب والدتها وافترش الصمت على مدخل فمها الذي أغلق أبوابه أمام كلمات القهر، ونابت العيون في سكبِ مائها.
أسدلت ستار الصمت على صوتها دون أي تعبير، ثم تحرك صوتها بوجع القهر الذي لم تخفه "دخلت إلى غرفة ابنتي قبس (17 عامًا) فوجدتها غارقة في بكائها، فسألتها عن الذي يبكيها، فقالت: في هذا الوقت بكون بستنى بابا، عشان أفتحله الباب، وأنا بقف على أمل أنه يدخل الباب وأفتحله، بس بتذكر أنه استشهد ومش راح يطرق الباب".
علامة على اقتراب الخطر
على الرغم من تعدد مرات الاعتقال لدى أمن السلطة، لم يذهب قلب جيهان إلى أن الأمور ستنتهي بالاغتيال، هكذا كانت تعتقد، لكن بعد اعتقاله في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بسجن "أريحا" بدأت رياح الخوف تجتاحها، ومثلت لها علامة أن الخطر يحدق بحياة زوجها، تمر على عدة محطات: "أفرج عنه وترشح للانتخابات التشريعية، وكانت الأمور تسير بهدوء ويحضر لخوض الانتخابات، لكن بدأت التهديدات تزداد عليه، وبدأت الدعوة لقتله تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن هناك بدأت ابتلع وأستوعب فكرة التصفية".
أصوات رصاصات كثيفة اقتحمت فضاء غرفة نومها التي ابتلعت جدرانه، صوتُ الرصاصات التي هشمت زجاجها، أفزع جيهان من نومها، لم يلتفت الرامي لصراخها: "نزار مش هون، في أطفال"، لكنه واصل إطلاق الرصاص.
ما سبق مشهد الاعتداء بعد إلغاء الانتخابات التشريعية بيوم يشد حديثها: "اتصلت به وكنت مرتعدة جدًا: "نزار صار طخ علينا، شو في؟ وليش هيك بصير؟"، أما هو فحاول طمأنتها: "ما تخافي، النائب العام استدعاني، بدي أشوف شو الوضع ويتفضل يعطينا أسماء اللي أطلقوا النار".
من هذه اللحظة غاب نزار عن البيت وظلَّ مطاردًا، إلى أن عاد إليهم بعد اغتياله، في المشهد الأب مدد أمام أطفاله وزوجته ووالدته، الجميع يرتدي عباءة الحزن، تحاصرهم الدموع وتنسكب على وجوههم، لا يصدقون أنه رحل، يتمنون العثور على إجابة عن سؤالهم: "في أي قانون يقتل مواطن لمجرد أنه أدلى برأيه؟!".
أما نزار الممدد بمشهد التشييع والوداع الأخير، فقد هدأ هدير أنفاسه، وأسكتوا صوته بسبعة وعشرين عنصرًا انهالوا عليه بكل أنواع التعذيب، لكن من يستطيع إسكات صوت الحزن الذي يقرع أجراسه يوميًا في قلب ابنته قبس ذات السبعة عشر ربيعًا وإخوتها كفاح ابن العشرة أعوام، ومريم ذات الأعوام الأربعة، وخليل "عامان" والرضيعة ماريا "أربعة أشهر"، التي ذاقت اليتم في مهدها، وهم يستقبلون العيد هذه المرة على قبر نزار؟!