على طاولة مكتبه زجاجة من الحبر العربي الأسود يجاورها أقلام ذات رؤوس مختلفة الأشكال تنتظر أن يُكتب بها على ورق مُعتق صنع خصيصى لاستخدامه في الكتابة، تجلس الأقلام بين أصابعه بنعومة ترص حروفًا عربية ذات نسق جميل تخرج في النهاية عبارات ثمينة الشكل والجوهر.
"وما من كاتب إلا سيفنى ويبقي الدهر ما كتبت يداه ... فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه" عبارة يتخذها الخطاط عبد الرحمن عسلية منهجًا في حياته وعمله، فهو الخطاط الذي عشق كتابة الخط منذ نعومة أظفاره.
في بيت كان الأب والأم خطهما جميلًا ورث عبد الرحمن هذه المهارة والموهبة التي عشقها، خاصة بعد أن لمس بيديه الصغيرتين الأقلام التي كان جده يقتنيها للكتابة، إضافة إلى الحبر ذي الروائح الجميلة التي لا تزال ذاكرته تحتفظ بها.
ذكريات شكلت مستقبل عبد الرحمن، وزاد من تعزيزها أستاذ اللغة العربية حسن حجازي الذي علمه أسس الكتابة للخط العربي، لينطلق بعدها في محاولة التعلم الذاتي في حياة كانت لا تولي للتخطيط أي أهمية.
يقول لصحيفة "فلسطين": "حبي للكتابة دفعني للبحث عن الخطاطين القدماء أصحاب الخطوط الجميلة في قطاع غزة، والتعرف إليهم ومحاولة الاستفادة من تجاربهم، والتعرف إلى المهارات التي كانوا يتمتعون بها".
ويضيف: "لمزيد من تطوير الذات لجأت إلى مواقع التواصل الاجتماعي للتواصل مع الخطاطين العرب في مختلف البلاد العربية، وعرض كتاباتي عليهم والاستفادة من توجيهاتهم، لتطوير أدائي".
يشير عسلية إلى أنه في مرحلة من المراحل شعر أنه أصبح جاهزًا للمشاركة في المسابقات والمعارض العربية الخاصة بالخط العربي، وتيسر الأمر له للمشاركة خارج فلسطين ومقابلة الخطاطين في المعارض الخاصة بهم.
ويلفت إلى أنه شارك في ملتقى الملك فهد في السعودية للخط العربي بعرض أول عملين له، إضافة إلى المشاركة في معرض أقيم في القطاع بمناسبة اختيار القدس عاصمة للثقافة العربية في عام 2009.
استمرت مشاركة عسلية في المعارض العربية، وكان منها معرض المدينة المنورة في 2011، ومعرض الشارقة في 2013 الذي شارك فيه عن بعد إذ أرسل مشاركاته دون الحضور شخصيًّا.
اللحظة الفارقة
ويذكر عسلية أن اللحظة الفارقة في حياته عندما تمكن من الفوز في مسابقة عقدت في القطاع بمشاركة 30 خطاطًا، وحصل على المركز الأول، وكان الهدف الرئيس منها هو اختيار خطاط من قطاع غزة لكتابة مصحف يحمل اسم "مصحف فلسطين".
ويتابع: "فزت بالمسابقة وسافرت إلى ماليزيا وكتبت الجزء الـ(30) من القرآن الكريم، وكان شرطًا للمؤسسة أن يُكتب المصحف في القطاع، لذلك عدت إليه على أن تُرسل الأوراق اللازمة لكتابة المصحف وباقي المستلزمات الخاصة بهذا الأمر".
ويوضح عسلية أن كتابة القرآن أمر ليس بالسهل ويحتاج إلى أنواع معينة من الورق "المقهر"، وهو ليس متوافرًا في القطاع، وإجراءات إرساله معقدة جدًّا، منبهًا إلى أن الاحتلال الإسرائيلي كان السبب في منع إدخاله حتى الآن.
ويوضح أن الورق المقهر ليس مثل باقي أنواع الورق التي يعرفها الناس، بل يُصنع يدويًّا ويدخل في مراحل مختلفة عن صناعة الورق العادي، ويُعالج بطريقة معينة لتمنعه من التلف بسهولة، مع إضافة المطيبات والروائح الجميلة، لأنه سيكتب عليه آيات القرآن الكريم.
ويؤكد عسلية أن كتابة المصحف تستغرق وقتًا وجهدًا، وأن الخطاط لا يستطيع كتابة أكثر من ورقة في اليوم الواحد، نظرًا لعملية الكتابة الصعبة التي تعتمد على كتابة الحروف ثم النقاط ثم الحركات والتزيين وعلامات الوقف والصلة ورؤوس الآيات وغيرها.
ويقول: "إنها عملية كبيرة إذ إن أمهر الخطاطين الخبراء يأخذ في كتابة المصحف سنتين، فكيف بمن يبدأ من جديد أول مرة؟!"، مشددًا على أنها تجربة جميلة وسيحرص على إكمالها، ولو على حسابه الشخصي.
ويسعى عسلية إلى تحقيق حلمين يضعهما نصب عينيه: الأول هو إقامة معرض شخصي له في داخل القطاع، أما الحلم الثاني -وهو الحلم الأكبر- فهو إكمال كتابة القرآن الكريم مع المؤسسة الماليزية أو فرديًّا.
ويشير إلى إنجاز كتابة المصحف على عاتقه سيكلفه 7-8 آلاف دولار، إذ إن أكثر من نصف المبلغ سيذهب إلى شراء الورق المقهر، لافتًا إلى أن المشكلة ليست في شراء الورق بل طريقة إدخاله إلى القطاع، وهو أمر صعب على من سيتحمل هذه المسئولية ومتعب له.