سيبدو ممكناً تقييم فاعلية المقاومة الشعبية في بلدة بيتا، من خلال عناصر كثيرة وليس فقط بالنظر في الإنجاز الأوليّ المتمثّل بإخلاء البؤرة الاستيطانية من المستوطنين على جبل صبيح، بعد أشهر من المقاومة الشعبية المتواصلة التي حملت لواءها بلدة بيتا، بالتعاون مع القرى المجاورة مثل يتما وقبلان، اللاتي تتوزع عليها أراضي جبل صبيح المهدد بالمصادرة منذ سنوات عديدة.
حالة المقاومة الشعبية في بيتا حدّدت لها هدفاً واضحاً منذ البداية، وهو إنهاء الوجود الاستيطاني على جبل صبيح، ومجابهة كل محاولات الاستيلاء عليه، وتحقيق هذا الهدف كان محتاجاً للتحرك على مستويات عديدة، أبرزها المواجهة الشعبية، والجهود القانونية لتثبيت ملكية أراضي الجبل لأهله الأصليين، وهذه الجهود كانت جماعية ومكثفة، ولم تزهد في طرق أي باب يمكن أن يساهم في إبطال الادعاءات الإسرائيلية المتعلقة بحق الجمعيات الاستيطانية في أي مساحة من الجبل، نظراً لأن أول مساحة منه استولي عليها بالقوة قبل نحو 40 عاما، ثم توالت بعدها محاولات السيطرة على الجبل للقيمة الاستراتيجية التي يمثلها موقعه.
يميّز حالة المواجهة هذه أيضاً تواصلها واستمرارها، متخلصةً من نمط العمل الشعبي الموسمي الباهت، الضعيف والشكلي، وما خلّفه من عزوف وقلة قناعة بجدواه، كونه يجري ضمن أوقات زمنية متباعدة ولا يصنع فارقاً أو يفرز نتيجة ملموسة على الأرض.
ولعلّ القناعة بجدوى الفعل الشعبي بدأت تتعزز في أوساط الفلسطينيين منذ النجاحات المتتالية التي حققتها الهبّات الشعبية في أحياء القدس ومحيط المسجد الأقصى، كهبة باب الأسباط وباب العمود، ثم صمود حي الشيخ جراح، والمرابَطة في ساحات الأقصى لمنع اقتحامات المستوطنين، والنجاح في التصدي لهذه الاقتحامات.
ومما أسند هذه القناعة آثار معركة سيف القدس، وإشاعتها الثقة لدى الفلسطيني بإمكانية تسجيل نقاط تصدُّع في جدار المشروع الاحتلالي الصهيوني، وإنعاشها العزيمة الجمعية التي قد يعتريها الفتور من حين لآخر، أو قد تركن لإملاءات الواقع الطافح بالتغول الصهيوني على الحقوق الفلسطينية، وخمول وعجز السلطة الفلسطينية في الضفة عن مواجهته، بل وتأسيسها سياسات أمنية وميدانية واقتصادية تديم حالة الشلل، وتصرف أنظار الفلسطيني عن أولوية مقاومة عدوّه.
من عناصر التميّز المهمة كذلك للمقاومة الشعبية في بيتا، تطوّرها المتسارع، وإدخالها أساليب وأنماطًا مبتكرة، مستأنسة بتلك التي اعتمدتها مسيرات العودة على حدود غزة، التي بدأت عام 2018، كاعتماد نمط الإرباك الليلي والبالونات الحارقة، وغير ذلك من أساليب مبتكرة ساهمت في ضرب عصب الأمن الاستيطاني على جبل صبيح، وأقلقت راحة المستوطنين عليه ليلاً ونهارًا، فكانت عملية الإخلاء سريعة.
ولعلّ الدليل الأوضح على فاعلية هذه الحالة من المقاومة الشعبية هو انتقال عدواها الإيجابية إلى مناطق أخرى، مثل بيت دجن وقصرة، وصولاً إلى مسافر يطا جنوب الضفة الغربية، وهذا التأثير المتمدد دليل على نجاح نموذج مقاومة بيتا، وحمل مناطق أخرى على التأسّي به بعد معاينة آثاره وما صنعه من ألق في الوعي ونتائج على الأرض، وهو نموذج قابل للمحاكاة والتطبيق في أماكن فلسطينية عديدة غزاها الاستيطان وتهددها على امتداد الضفة الغربية.
إن أفضل سبيل لمواجهة الخطط الاستيطانية التصدي لها من البداية وقبل أن تغدو واقعاً ثقيلاً على الأرض، ومتطلباً جهوداً كبيرة لاجتثاثه، وقدرات عسكرية ليست متاحة في واقع الضفة الغربية الآني، وهنا يمكن للجهد الشعبي أن يثمر في التصدي للمخططات الجديدة والحديثة، إذا ما وظّف بفاعلية وحيوية، ودمج قطاعات واسعة من الجمهور فيه، ومثّل حالة إجماع، يدرك كل فرد في إطارها أن عليه مسؤولية المساهمة في المواجهة، واستند إلى فكرة المواصلة والتطور والابتكار والإبداع، ومحاكاة كلّ مثال ناجح وقادر على خلخلة عنصر الأمن الصهيوني، الذي يقوم عليه بنيان المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية.
تتقدّم المقاومة الشعبية الفاعلة في عموم الضفة الغربية ببطء، لكنها تبشّر بخير كثير.