الدرس الذي يجب أن يتعلمه كل قائد فلسطيني من تجربة الكفاح الفلسطيني قبل عام 1948 (عام النكبة)؛ يتمثل في مخاطر اللجوء إلى الاغتيال الفردي في حل الصراعات السياسية في الداخل الفلسطيني.
فما حدث في تجربة الثورة الفلسطينية (1936-1938) من ممارسة لسياسة الاغتيال الفردي، حتى في تهمة العمالة للاستعمار البريطاني (الانتداب) في ذلك الوقت، وما تبعها من ردود مماثلة، أدت إلى انقسام القرى إلى قيس ويمن. وغلب الصراع تقاليد الثأر المتبادل فيما بين العائلات، مبتعدة عن الأصل السياسي للخلاف.
وذلك يرجع إلى تقليد تاريخي في المجتمع ما بين العائلات، أو ما بين "الحمايل"، إذ لا يمكن أن يُرد على القتل إلا بالقتل. وليس بالثأر من القاتل وحده إن ولى الفرار، أو امتنع الوصول إليه، وإنما من أي فرد من عائلته أو حمولته، ويفضل -للأسف- أن يكون من أخيارها.
طبعًا الفلسفة من وراء هذا التقليد تعود، في أساسها، إلى إقامة سياج من الحماية للأفراد وأهليهم وعشيرتهم من التعسف أو التسلط، ولا سيما إذا كانت السلطة عاجزة عن الحماية وإنزال القصاص، أو تكون متواطئة بشكل أو آخر. هذه "الفلسفة" أو هذا التقليد في الأصح عمر أو ساد لمئات السنين، أو أكثر. وأثبت على أرض التجربة قوته، وإلا ما عاش حتى يومنا هذا.
صحيح أن الفكر الحداثي قفز بسرعة إلى اعتباره "رجعيا"، ولكن لم يكُن لديه من حل إلا النموذج الأوروبي الرسمي، وليس التاريخي والسياسي العملي، بأن الدولة هي التي يجب أن تتولى هذه الحماية، وتقوم بالقصاص. ولكن هذه الذريعة فارغة من مضمونها عندما تأتي إلى وقائع ومعادلات مختلفة تمامًا، وإلى دول لا تمسك بمجتمعاتها وحقوق أفرادها.
المهم، الدرس المطلوب تعلمه، ولا سيما من قِبَل أصحاب القوة والنفوذ، أن هذا النهج السياسي في الساحة الفلسطينية مدمرٌ، ويفتح بابًا للثارات لا يُغلق، ولو بعد عشرات السنين. ولدينا أمثلة في التجربة التاريخية الفلسطينية لثأر نام في القلوب، ليوقظ بعد عشرين عامًا مثلًا. فالولوغ في الدم اغتيالًا في تاريخنا وتقاليدنا، لا يُقدم عليه بعد التجارب المريرة إلا جاهل جاهل، أو أحمق أحمق، أو مشبوه والعياذ بالله.
هذا الدرس كان حاضرًا في تجربة الثورة الفلسطينية المعاصرة عمومًا، ولم يتحول إلى سياسة، على الرغم من بعض الاختراقات التي تم تلافيها بأسرع ما يمكن.
أما بعد اتفاق التنسيق الأمني الذي أرساه الجنرال الأمريكي دايتون في عهد الرئيس محمود عباس، فقد تحول إلى سياسة بالضرورة اتخذت أسلوب التعاون مع العدو ليقوم هو بعملية القتل، كما حدث مثلًا في اغتيال شهيد الشباب والمفكرين باسل الأعرج. وهذه ممارسة راحت تتراكم لتصل إلى ما لا يحمد عقباه.
أما الدخول في تصعيد جديد لهذه السياسة "الاغتيال الفردي" باغتيال الشهيد نزار بنات، الذي أثبتت الردود الشعبية بأنه يحمل لقب حبيب الشعب نزار بنات، فإن الكيل قد فاض ودخل الوضع في المحظور.. محظور القتل والقتل المضاد حتى ما بين العائلات و"الحمايل"؛ لأن العنصر والضابط المنفذ سيجر إلى الثأر منه ومن عائلته لا محالة. ولن تنفع الحجة أنه مأمور يتلقى أوامر.
طبعًا هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى، فإن إقدام السلطة التي على رأسها محمود عباس على هذه الجريمة المشهودة، والتي أصبحت ثابتة من قِبَل لجنة التحقيق التي عينتها السلطة، مع آخرين من المسؤولين عن التحقيق، تكون قد ارتكبت، وارتكب رئيسها، خطيئة العمر في الداخل الفلسطيني بعد خطيئة اتفاق أوسلو السياسية التي لا تغتفر.
إذا كانت خطيئة أوسلو قد اتخذت طابع الصراع السياسي، والتي خسرها محمود عباس، إذ فشل في ما أراد منها فشلًا ذريعًا، وقد اعترف به هو نفسه، فإن الخطيئة الثانية التي هي خطيئة جريمة دم، يتوجب تلافيها بأسرع ما يمكن. ولا يكون ذلك إلا برحيل النظام والسلطة، إلى جانب القصاص العادل. وهو ما يجب أن تقوم به قيادات حركة فتح وكوادرها، وذلك لإنقاذ الموقف من صراع داخلي قد يغرق بالدم، فيما المصلحة العليا لفتح وللشعب الفلسطيني وللقضية الفلسطينية أن يُحافظ على ما أنجزته المواجهات وسيف القدس، في رمضان/ أيار (مايو) 2021، ومن ثم مواصلته لأن معركته (معاركه) ما زالت مستمرة.
فالعدو يواصل اعتقالاته في القدس والضفة ومناطق الـ48، وقد فتح المعركة في سلوان وبيتا ومناطق أخرى، وما زال مستمرًا في العدوان على حي الشيخ جراح والمسجد الأقصى وقطاع غزة، الأمر الذي يتهدد كل ما بذل من دماء وتضحيات وبطولات في المواجهات وسيف القدس. وذلك إذا لم يتحد الجميع في مواجهة تحديات العدو، وما لم يواصل الهجوم على الاحتلال والاستيطان ووضع أسس جديدة للتحرير.. الأمر الذي يوجب إغلاق ملف جريمة قتل حبيب الشعب نزار بنات، لا باللفلفة والتشاطر، وإنما بقرار رحيل السلطة ورئيسها محمود عباس وإنزال القصاص بالقتلة.
وقد آن الأوان لمحمود عباس أن يطلق سراح حركة فتح باتخاذ القرار الشجاع إنقاذًا لها بالتنحي، كما تجنيبًا للشعب الفلسطيني ما لا تحمد عقباه.
إن ما يراه محمود عباس أمامه من حب الناس للشهيد نزار بنات، وما يراه أمامه من تظاهرات وغضب شعبي، هو فقط رأس جبل الثلج العائم، أو في الأصح إنه إرهاصات لما تحت السطح من غليان.
إن النصيحة المُثلى في السياسة والصراعات أن تستبق الآتي من الأحداث بخطوة واحدة.