فلسطين أون لاين

يجسد آلام الشعب وآماله

"الثائر كنفاني".. أدب لا تنساه الذاكرة الفلسطينية

...
غزة- هدى الدلو:

في الثامن من يوليو/تموز عام 1972 اغتال الاحتلال الإسرائيلي أيقونة الأدب الفلسطيني غسان كنفاني، الذي نشط في "أدب المقاومة" في فلسطين بعد نكسة يونيو/حزيران 1967.

وولد كنفاني في عكا عام 1936، وعاش طفلًا في يافا، وعندما وصل عمره إلى ١٢ عامًا وقعت النكبة سنة ١٩٤٨ وهجرت العصابات الصهيونية عائلته إلى لبنان ومنها إلى سوريا حتى نال شهادة الثانوية العامة.

سافر إلى الكويت وعمل مدرسًا ومحررًا لإحدى الصحف باسم مستعار هو (أبو العز)، وفي الكويت كتب أول مجموعة قصصية له بعنوان (القميص المسروق).

وفي بيروت عمل صحفيًا في مجلة الحرية وكان له عمود ثابت في جريدة المحرر البيروتية، وتوسعت علاقاته وكثرت إنجازاته وأظهر شجاعة في مواقفه الوطنية مما جعله هدفًا للموساد الإسرائيلي.

يذكر أستاذ الأدب والنقد في الجامعة الإسلامية د.محمد مصطفى كلاب أن كنفاني كانت له أنشطة سياسية متعددة في المرحلة الجامعية، واتجه من الناحية الأدبية إلى قراءة القصة الرومانسية التي عاشت ظروفًا مشابهة لحياة الفلسطيني في المخيمات، وعمل في العديد من الصحف والمجلات.

ويقول لصحيفة "فلسطين": كلمات كنفاني الأدبية والسياسية والفكرية لها مكانتها العميقة في الفكر والذاكرة الفلسطينية والعربية، "وقد اغتاله الإرهاب الصهيوني لأجل إسكات الصوت الفلسطيني بتفجير سيارته في لبنان، هذه الحادثة المؤلمة التي اغتالت رمزًا من رموز الأدب والفكر والسياسة الفلسطينية، والذي كتب إبداعات مختلفة، وأعمالًا أدبية، وآثارًا فكرية، ومقالات سياسية، ودراسات نقدية منتشرة في أكثر من دورية وكتاب".

ويرى د.كلاب أن ما أبدعه كنفاني لفت أنظار الباحثين والكتاب والمفكرين والسياسيين، فكُتب حول مختلف أعماله الأدبية كتب وأبحاث متعددة ورسائل علمية، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، غادة السمان كتبت كتابًا حول "رسائل غسان كنفاني"، ورضوى عاشور كتبت عن أدبه "الطريق إلى الخيمة الأخرى"، إضافة إلى العديد من الأعمال النقدية التي كتبت حول إبداعاته.

"ظاهرة الموت" كانت من الأشياء الملفتة في كتاباته، يقول عن ذلك: "الموت لا يدل فيه على الهروب من الحياة، بل إعادة بناء الواقع بسبب ما أحدثه الاحتلال، فرؤيته للقضية الفلسطينية موجودة في كل كتاباته عن فلسطين سواء في الماضي أو الحاضر أو استشراف للمستقبل".

امتلك أدب كنفاني المقومات العالمية، يضيف د.كلاب: "بالفعل، هناك شبه بين كتاباته مع كتابات الكاتب الأمريكي الذي فاز بجائزة نوبل فوكنر كلاهما تعرضا لحياة مشابهة للآخر، وتأثر بالروائي الروسي دوستويفسكي في طريقة عرضه الموجز وابتعاده عن الخطابة المباشرة، كما أنه قريب من روايات إميل حبيبي، ولذلك ترجمت أعماله الأدبية للعديد من اللغات، فأوجد له حضورًا في الأدب العالمي في أكثر من دولة مما يدلل على عمق فكرته والرسالة الإنسانية التي حملها أدبه، والبعد القيمي، وانحيازه للمرأة في عدة روايات كرواية أم السعد".

وقد برزت صورة التمرد والثورة واضحة في كتاباته، ويشير إلى أن ما يميز أدبه، النهايات المفتوحة التي غالبًا تنتهي بتساؤل "لماذا لم تدقوا جدار الخزان؟" "ماذا بقي للفلسطيني بعد أن فقد كل شيء؟" وغيرها التي تفتح للقارئ آفاقًا لاستشراف المستقبل، وتحدث شراكة إبداعية وتفاعل بينه وبين المتلقي.

وينقل د.كلاب ما تحدث عنه بعض النقاد والكتاب، فالناقد يوسف اليوسف رأى أن رواية "رجال في الشمس" هي أعظم عمل روائي كتب على الإطلاق في موضوع فلسطين، وتحدث د.يوسف ادريس عن رواية "ما تبقى لكم" أنها من أعمق الروايات التي تصور مأساة فلسطين، ورواية الشيء الآخر جمعت بين الاثنتين "ومن هنا نقول أن تجسيده للحالة الفلسطينية بكل جزيئاتها حول أعماله الأدبية إلى درامية متلفزة".

ويبين أن كنفاني تمتع بلغة إبداعية متميزة مستوحاة من القاموس العربي اللغوي، وهناك بعض الألفاظ الشعبية الفلسطينية، ورسم أدبه معاناة الفلسطيني في داخل فلسطين وخارجها، وبالتالي حملت ملامح القضية الفلسطينية بكل مكوناتها.

كنفاني كان سياسيًّا وقاصًّا وروائيًّا ومسرحيًّا متميزًا، وتحدث عن صموده أمام المحتل، وأمام مرضه بالسكري فتحدى المرض ولم يستسلم.

ويتابع د.كلاب بأن كنفاني دخل الفضاء العالمي من عدة نواحي لكونه يحمل فكرًا إنسانيًّا، وطبعت أعماله عبر دور نشر مختلفة محلية وعالمية، فهو رمز من رموز الأدب والفكر، وضحى بأثمن ما يملك من أجل القضية الفلسطينية، ولا يزال أدبه مرآة يعج بالذاكرة الفلسطينية، ويجسد آلام الشعب وآماله وينقل التجارب المعاشة في الداخل والخارج.

"العنفوان الثوري"

من جهته يقول الشاعر ناصر عطا الله، عضو الأمانة العامة للاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين: "غسان كنفاني يمثل العنفوان الثوري للحركة الوطنية، وإشغال الوعي الجمعي والإبداعي بكشف المؤامرة الكونية ضد الفلسطينيين، ومحاولات شطب هويتهم ومن ثم وجودهم".

وفي حديث مع صحيفة "فلسطين"، يضيف: أدبه وكتابته للرواية الفلسطينية والقصة والمسرح والبحوث الأدبية استهدفت الوعي الوطني لرفعه عند جيل الشباب لأنه جيل التحرير والخلاص من السلب، مضيفًا أن "العدو لا طاقة لديه لتحمل أمثال غسان حراس الهوية".

ويوضح عطا الله أن غسان كأديب يشهد له بأنه فاق أبناء جيله ولم يزاحمهم غيلة أو منافسة شخصية، بل مادته الأدبية كانت زاخرة وبحجم وجع اللاجئ والحالم بعودة مستحقة إلى وطنه، فكتب عائد إلى حيفا، وأرض البرتقال الحزين، وموت سرير رقم ١٢، وفي دمشق عائدًا من الكويت كتب رجال في الشمس.

ويشير إلى أن روايته رجال في الشمس، أخرجت فيلمًا سينمائيًا تحت عنوان "المخدوعون"، كما استكمل مشواره الأدبي بكتابة رواية "عالم ليس لنا" و"أم سعد"، و"ما تبقى لكم" و"الشيء الآخر" و"القنديل الصغير".

أما المسرح، فيبين عطا الله أنه اهتم بكتابة المسرح، ومنها الباب والقبعة والنبي وجسر إلى الأبد.

وفي مشواره الأدبي نال كنفاني جائزة أصدقاء لبنان، وجائزة منظمة الصحافة العالمية، واللوتس ووسام القدس.

ويتابع حديثه عن الأيقونة الأدبية: "كنفاني كان ثائرًا بالمعني الحقيقي للكلمة، وجسد ذلك فعليًا بانخراطه النضالي والاشتباك اليومي مع العدو ومواجهته إعلاميًّا بزيف روايته، وحقيقة أنه لم يحمل مسدسًا أو بندقية، ولكنه نزل الخنادق وكتب منها، وتغبرت قدماه بغبار المعارك التي كان ينقلها للصحافة العالمية ويحولها إلى روايات وقصص وشواهد على جرائم الاحتلال، وكان شرسًا بدفاعه عن القضية الفلسطينية وغير مهادن، ويرى أن الفلسطينيين تعرضوا لمؤامرة خبيثة وأنهم ظلموا".

وينبّه عطا الله إلى أنه بلا شك فقد أثرى المكتبة الوطنية، وتحولت أعماله الأدبية إلى مراجع لا تزال تطبع كتبه إلى اليوم وتتناقلها الأجيال، وتعرضت لها الدراسات الأكاديمية، وتحصل بسببها الكثيرون على شهادات الماجستير والدكتوراه، كما تحولت بعض أعماله إلى أفلام ومسلسلات.

"اغتاله العدو الصهيوني لأنه مقاتل جسور يواجه الدنيا كلها مدافعًا عن حق شعبه بالحياة والعودة إلى وطنه، فكان السبب المباشر لاغتياله هو عشق فلسطين، وعشقها يعني الوعي التام بمقومات التشبث بها وخوض معارك التحرير والتحريض على ذلك من أجلها"، وفق حديثه.

ويكمل: استشهاد كنفاني شكل صدمة كبيرة لعموم الشعب الفلسطيني، ولدى المثقفين والمشهد الأدبي، فكان رحيله فاجعة وخسارة كبيرة لا نزال إلى اليوم لم نستطع سد حاجتنا من أدب كنفاني، فنحن نتحدث عن شاب في عمر ٣٦ عامًا فقط، وأنجز كل هذه الأعمال الأدبية المرموقة والتي أنجزت فعليًّا خلال ١٧ سنة فقط.