قد أكون متحدثًا بلسان أهل غزة كلهم، ومعبرًا بكلماتي عن أحوالهم، وناطقًا غير رسمي باسم أهلي وجيراني وشعبي وناسي سكان القطاع الحبيب، المكلومين الجرحى، والمحاصرين الحزنى، والمعذبين الهلكى، والمحرومين العطشى، الذين نكبهم الاحتلال البغيض وأضر بهم الحصار اللعين، وأنهك قواهم العدو والجار، إذ كُتبَ عليهم الشقاء وحل بهم البؤس والبوار، وصارت حياتهم كلها همًا وعناءً، وفقرًا وجوعًا وقلة دواء، وسرقاتٍ وجرائم وظواهر غريبة، تكبر فيهم وتتوحش، وتزداد بينهم وتتفشى في مجتمعهم، تهدد بنيانهم وتفتك بنسيجهم، وهم في سجنهم الكبير يركضون وخلف بعضهم يجرون، وفي دوائر مغلقةٍ يدورون، كالمضروب على رأسه فلا يعرف مساره ولا إلى أين يتجه، يبحثون عن سبيلٍ للنجاة وطريق للحياة وفرصة للعيش والبقاء، يصرخون بعالي صوتهم فلا يسمع أحد صرختهم، ولا يهب غيورٌ لنجدتهم، ولا يثور قويٌ لنصرتهم، ولا عادلٌ لإغاثتهم.
وربما أتحدث باسم الفلسطينيين جميعًا، البعيدين عن وطنهم، والمشتتين عن أرضهم، والغيارى على شعبهم، والمخلصين لأهلهم، الذين يـتألمون لأحوال أبنائهم في غزة، ومعاناتهم فيها، ولكنهم عاجزون من مساعدتهم، وغير قادرين على إنقاذهم أو التخفيف من معاناتهم، فهم في أغلبهم يعيشون في ظل أنظمةٍ وحكوماتٍ، عربيةٍ وأجنبيةٍ، لا تسمح لهم بالثورة، ولا تجيز لهم الانتفاضة، ولا تمنحهم الموافقة لتسيير القوافل والمساعدات، وغاية ما تسمح لهم به مظاهرات ومسيرات بها يعبرون عن مواقفهم، ويظهرون مشاعرهم، ويرفعون شعاراتٍ بمطالبهم، يعودون بعدها إلى بيوتهم وينشغلون في أعمالهم، ويبقى شعبهم يتضور جوعًا، ويتلوى ألمًا، ويشكو وحدةً ويعاني غربةً، ولا يتوقع من غير الله سبحانه وتعالى فرجًا وأملًا.
غزة كلها التي بات سكانها يربون عن المليوني نسمة ويزدادون، تتطلع أملًا بالفرج إلى جهة الجنوب، حيث بوابة رفح الموصدة، ومعبر الأخوة المغلق، وباب الأمل المسدود، وممر الموت والحياة المعلق، وكلها أمل أن تفتح هذه البوابة، وأن تعود إلى العمل من جديد، وألا يطول إغلاقها أو يتعذر فتحها، ليعبر من خلالها سكان غزة بالاتجاهين إلى مصر، ومنها إلى دول العالم كلها، التي ترحب وهي الغريبة دينًا ولسانًا بكل من يأتي إليها قادمًا من قطاع غزة، للإقامة والدراسة أو للعمل والعلاج.
بوابة رفح، موظفوها غائبون لا يحضرون، وبعيدون لا يقتربون، وقد استبدلوا بجنودٍ يحملون بنادقهم، ويهددون كل من يقترب أو يخترق، بإطلاق النار عليه قتلًا أو ترهيبًا، إذ لا قرار بفتح البوابة، ولو مات من هم خلفها كلهم، وكأن هذه البوابة عنيدة لا تستجيب، أو صدئة المزلاج فلا تفتح، أو ثقيلة الجدران فلا تنفرج منها كوة، ولا يفتح فيها باب، ولا يعبر منها إلا موتى في توابيت، دخلوها وهم مرضى كالموتى، وعادوا منها بعد خمدت أنفاسهم وأزهقت أرواحهم، وانتهت حياتهم، فعادوا إلى وطنهم عبر البوابة اللعينة، جثامين ساكنة وأجساد يابسة، لتفتح لهم أرض غزة جوفها، ويسكنوا بعد طول معاناةٍ تحت ثراها.
لا شيء يشغل سكان قطاع غزة كمعبر رفح، حتى بات السؤال عنه كل يومٍ قبل صباح الخير والسلام عليكم، إذ لا شيء يقلقهم مثله، ولا يعنيهم أمرٌ غيره، فقد ارتبط مصيرهم به، وتعلقت آمالهم بفتحه، وتوقفت الحياة عليه، وتجمدت المشاريع في انتظاره، وأصبح دعاء الناس الأول في المساجد وفي البيوت، وفي السجود وفي دعاء القنوت، وأوقات الاستراحة وأثناء العمل، وعند الاستيقاظ وقبل النوم، وعلى لسان الكبير والصغير، والصحيح والسقيم، والقادر والعاجز، والأب والابن، اللهم عجل بفتح معبر رفح، ويسره للعابرين، وخفف عنهم عناء السفر، وألحق الغائبين بأهلهم والموظفين بأعمالهم، والطلاب بجامعاتهم، والمرضى بمستشفياتهم.
يتساءل سكان قطاع غزة والفلسطينيون جميعًا، لماذا لا يتم تشغيل معبر رفح مثلما تشغل سلطات الاحتلال معبر الكرامة الذي يربط فلسطين بالأردن، إذ إن معدل المسافرين عبر معبر الكرامة بالاتجاهين يتجاوز نصف المليون مسافر شهريًا، وعدد الذين يعودون ولا يسمح لهم بالعبور لأسبابٍ أمنيةٍ قليلٌ جدًا، ويقدر بالعشرات من بين مئات آلاف المسافرين، وقد أعلنت الجهات المختصة بإدارة المعبر بأنه سيفتح 24/24 بدءًا من يوم 20 يونيو الجاري وحتى نهاية أكتوبر من هذا العام، على أن يعمل على مدار الساعة وعلى مدى العام كله بدءًا من الأول من يناير 2018، ما يجعل الفلسطينيين في الضفتين يتواصلون ويتزاورون ويترابطون ويتوادون، وينبون حياةً مشتركة ومستقبلًا موحدًا.
سكان قطاع غزة الذين خضعوا لسنواتٍ للإدارة المصرية قبل حرب يونيو / حزيران 1967، ما زالوا يحملون الحب والود للقيادة المصرية، ويذكرون كيف أن الإدارة المدنية المصرية كانت تقدم لهم كل التسهيلات الممكنة، وتزيل من أمامهم كل العقبات التي تضيق عليهم وتسيء إليهم، حيث كانت الحكومة المصرية تعامل طلاب قطاع غزة كطلابها المصريين، وتمنحهم تسهيلاتٍ كثيرة، في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية والسيئة لسكان القطاع في تلك الفترة، التي ساد فيها الفقر والجوع والبطالة، وتدنت فرص العمل، وتفشت ظواهر السرقة وقطاع الطرق، وانشغل الناس جميعًا في البحث عن لقمة العيش، التي كان من الصعب الحصول عليها بسهولة ويسر، دون التسهيلات والرعاية المصرية، إلا أن القيادة المصرية سمحت لأبناء غزة بدخول مصر، والإقامة فيها أو الانتقال منها إلى دول الخليج العربي والمملكة السعودية وغيرها للعمل فيها.
أيها المصريون الشرفاء، يا حكام مصر وقادتها، يا عمق العرب وكنانة الإسلام، أيها الغيارى الأحرار، والمسلمون الأصلاء والعرب النبلاء، إن قطاع غزة يستغيث في هذا الشهر الفضيل، ويجأر إلى الله عز وجل بالدعاء، ويرفع كفيه قبلة السماء، بعيون حزينة ولحى مخضلة، وأطفال يبكون، ومرضى يعانون، وبعمالٍ عاطلين، وموظفين مهددين، وطلابٍ محرومين، إنه بقلوب قاطنيه المفجوعة يسألكم الرحمة بسكانه، والرأفة بأهله، والنظر بعين الرحمة إلى أبنائه، فلا تلقوا به وبأبنائه إلى التهلكة.
فقد طال والله الحصار واشتد، وعظم البلاء وضاق القيد، وبلغ سيل الحصار الزبى، وقد مضى على إغلاق معبر رفح أشهرٌ طويلة، ومن قبل دام إغلاقه أشهرًا أطول، حتى ضاقت الأرض على أهلها وإن كانت في أصلها غير رحبة، وبات الناس في كربٍ عظيمٍ ومحنةٍ كبيرة، فمدوا لهم يد العون وحبل النجاة، وأغيثوهم وكونوا لهم عونًا، وساعدوهم وكونوا لهم سندًا، فإنهم والله درعكم وحصون دولتكم، وحراس وطنكم، والأمناء على أمنكم وسلامة أرضكم وحياة شعبكم، وإنهم ليحبون مصر ويضحون في سبيلها، ويخافون عليها ويضحون في سبيلها، ولا يقبلون أو يأوون بمن يهدد أمنها.