فلسطين أون لاين

قوارب الموت

...
أنس أبو شمالة

نظرات كما الرصاصات تخترق داخلك لتلقي بك في رحلة الغموض لإيجاد تفسيراتٍ لفعلتها، لحبّوها البطيء نحو الصورة المرتكزة على إحدى الكراسي المصطفة في ساحة البيت، لمحاولتها الاستناد على أطراف الكرسي لتحاول الوصول إلى الوجه المتمثل في الصورة، إلى وجه والدها "إبراهيم" ... وهكذا كانت غزل ذات السنتين تحاول التعبير عن افتقادها لهذا الوجه بين الحضور..

هنا كانت البداية، وهذا ما أطلق العنان لتشتت " أم إبراهيم " ... دوران عينيها المشتتة بين الجلوس، دموعها الملاحقة لكلماتها المتقطعة إثر أنين بكائها، وكأنها تسترد عبر ذلك فقيديها من عرض البحر، ذاتهما اللذان لم يُعرف مصيرهما حتى هذه اللحظة.

شيء ما ينطلق من عيني أم إبراهيم أثناء حديثها، وكأنها وجدتنا حبل نجاة لنوصل ما وصل إليه حالها بعد الفقد.. كلامها.. أنفاسها المتسارعة.. ضربات قلبها التي وصلتنا من مكانها إلى مكاننا.. كل ذلك يتمثل أيضًا في زوجها أبو إبراهيم، ذلك الذي يجلس على كرسيّه وقد رسمت في عينيه علامات الألم والشوق لفقيدا قلبه..

طمتٌ مطبق لم نستطع أن نكسره فكسرته "أم إبراهيم " قائلةً وهي تجفف دموعها المنسابة على وجنتيها: لم أكن أعلم بخروج أبنائي إلا بعد فقدانهم في عرض البحر، ولم يكن الخبر مصاحبًا لأي دليل سوى رؤيا الناجين القلائل.

قاطعها حفيدها الصغير "خليل" صاحب الخمسة أعوام متسائلاً عن والده "إبراهيم " (فقيدها الأكبر)، والإجابة كانت دموعها فقط، وكأن عقارب الساعة قد توقفت عن الدوران، ولم يجرؤ أيّنا أن يعزها على استرسال دورانها.

كل ما مرَّ حُفر في ذهن هذا الطفل، وسؤاله الدائم "أين والدي" والإجابة فقط دموع مسترسلة... ذاته الطفل الصغير الذي جالس حضن جدته في الجلسة، لم نكن قد رأينا في عينيه سوى علامات الغموض المتوشح بتلك الصلابة وقوة الطفولة الحالمة رغم مأساته. نظراته لخطوات أخته الركيكة ومحاولته إطلاق تشجيعه لها لتكمل مسيرها، واستقبالها لذلك التشجيع بمحاولة أخرى، أخبرتنا أنَّه الأمثل سندًا لأخته في سنيِّيها القادمة، أنّ اتكائها عليه من الذي يدور حولها بدأ من هذه اللحظة، لم تعهد والدها، فقط تعي التشبث بحاضر أخيها ...

توقفنا نتأمل في عيونهم المشتتة، حتميًا تستطيع أن ترى نظرة الوالدة التي تعبر فيها عن تجسيدها لفقيديها في كل وجه تراه، قاطع تأملنا تنهيدة أبو إبراهيم التي أطلقها وهو يمسح براحة كفيه وجهَهُ المثقل بالألم قائلاً: توجه أبنائي مستقلين تلك الحافلة التي تحمل أضعاف العدد باتجاه احدى الاستراحات على حافة الطريق الساحلي لمدينة الاسكندرية من أجل أن يتزودوا "بالماء والتمر" وعند اقترابهم لأماكن القوارب والانطلاق لعرض البحر انقطع الاتصال...، أبو إبراهيم الذي يبلغ من العمر 55 عاماً ويعمل مديراً لوزارة الشباب والرياضة أكمل كلامه بصوتٍ ملئوه الألم والحنين : بعد عدة أيام سمعنا عن تعرض أحد القوارب للغرق من قبل القراصنة بعد وقوع شجار على متن ذلك القارب المهترئ والذي لا يصلح للسفر مسافاتٍ طويلة بين القبطان والمهاجرين الذين هربوا من واقع الحياة الأليم وظلم الحصار على غزة مخاطرين بحياتهم وخائضين لأمواج البحر العاتية إيماناً منهم بالحياة الكريمة بعيداً عن ويلات الحروب...

استرسل تنهيدة الألم قائلاً: انتظرنا أن تضيء شاشة الهاتف حاملة للبشريات تزف إلينا خبر النجاة..

هنا، كلنا تأهبنا للنهاية، وكلنا أردنا أن تتحقق نبوءة يعقوب وقتها، ولكنه أكمل:

لكن سرعان ما علمنا بنجاة ثمانية أشخاص على متن القارب، بادرت بالاتصال وقلبي يخفق أملاً، لأخاطب أحد الناجين "زكريا العسولي"، ولكنه أكد صحة الشجار وقيام القراصنة بسفينة أخرى بإغراق المركب وإدخال الماء به بعد الاصطدام المقصود لهُ، وإغراقهم للأطفال والنساء وهم في عرض البحر وتركهم دون أي رحمة في تلك المياه الإقليمية ليلقوا حتفهم، فما كان منهم إلا أن يتحدوا ليشكلوا دائرة في عرض البحر طمعـاً بالنجاة ، لكنّ قسوة الأمواج آلت دون ذلك فقد ضربتهم وتشتت شملهم وفقد الوعي بعضهم، فمـا وجد نفسه إلا في أحدى المشافي فاقداً زوجته وطفله الصغير..

لاحظنا مع اختناقه بغصة الدموع وتوقفه عن الكلام، أن يديه بدأت بالارتجاف قليلاً..

أكمل: خاطبت زكريا وقلبي يخفق من الخوف من الإجابة، سألته عن أبنائي إن كانوا على متن القارب، فأجابني أنه قد ترك طفله بين يدي محمود في وقت غرق المركب، نظرًا لعدم قدرته على السباحة، وأن وموقف ولدي الرجولي بعدم التخلي عن الطفل في الماء، واصفـاً هيئته بأنه يضع تقويم للأسنان وله أخ يكبره بسنوات على متن القارب، لأعلم أنه يتحدث عن محمود (الفقيد الآخر)... حينها " قطــع الشك باليقين "...

لم نستطع مطالبته بالمواصلة، ولم نكفّ عن التساؤل عن وقتٍ مضى دون أن يُعلم مصير أبناء أبي إبراهيم، وأبناء العائلات الأخرى، كل هذه المدة مضت ولا تحرك من أي جهة معنية...

أكمل أبو إبراهيم هذه المرة وهو يجهش بالبكاء مناشداً جميع الجهات بالتدخل في عملية البحث عن أبناءه المفقودين دون مصير حتمي معروف، هنا أصبح فؤاد أم إبراهيم وأبيه خاويًا إلا انتظار عوته وأخيه إلى أحضانهما...