من المؤسف جدًا أن يتراجع اهتمام الرأي العام، بما يجري في القدس، إذ إن الواضح أن موجة الاهتمام موسمية ومؤقتة، وترتبط بأحداث كبرى مثل تلك التي شهدناها في رمضان.
هذا التقلب تراهن عليه (إسرائيل)، أحيانا، من حيث معرفتها أن ردود الفعل، تأتي موسمية ومؤقتة وقابلة للتغير، تحت وطأة أحداث كثيرة، وليس أدل على ذلك من أن الاحتلال عاد إلى ذات ممارساته، بعد أن توقفت المواجهة العسكرية الأخيرة، وكأننا نقول إن استمرار ذات السياسات لا يمكن أن يجلب رد فعل، ما دامت السياسات تُنفّذ دون صواريخ وقصف.
أول من أمس، شهدنا اقتحاما جديدا للمسجد الأقصى، في سلسلة متواصلة لهذه الاقتحامات منذ أن توقفت المواجهة العسكرية، ويُقتحَم المسجد كل مرة بحماية الشرطة الإسرائيلية، إضافة الى مواصلة ذات السياسات بحق الشيخ جراح، وسلوان، وهدم البيوت ومصادرتها.
هذا يعني أن الاحتلال الإسرائيلي يريد أن يبرق بعدة رسائل أولها أن السيطرة على القدس، والحرم القدسي، هي لـ (إسرائيل)، وثانيها أن (إسرائيل) لن تتراجع للوراء، وثالثها أن الانتقام والثأر مما جرى في رمضان وبعده، أمر مؤكد، بكل هذه التصرفات اليومية.
هذا مشهد يهدد هوية القدس العربية والإسلامية، ويؤكد من جهة ثانية أن هذه السياسات سوف تستمر، على أساس مبدأ التغيير الناعم والمتدرج والهادئ، دون ضجيج أو صخب.
الكارثة هنا تتعلق بهوية القدس، عموما، والتغييرات التي تجري داخل البلدة القديمة، أو الحرم القدسي، أو الحزام الفلسطيني المحيط بالقدس، الذي كان يعد سابقا حزاما من القرى المقدسية، لكنه أصبح اليوم في عمق القدس، وإلى جوار المسجد الأقصى، ومرتبطا تماما بالحرم القدسي.
السياسات الإسرائيلية هنا، ووفقا لما نشر مرارا، تتعمد إيذاء المسجد الأقصى، عبر الاعتداء على حرمته، ومنع أعمال الترميم، واعتقال أفراد من حراساته، والتضييق على المصلين، والتحكم بكل ما يجري داخل المسجد الأقصى، دون أن تمتنع (إسرائيل) عن تصرفات مهينة تصل حد اقتحام المسجد وتحديدا المسجد القبلي أأو قبة الصخرة، وإطلاق قنابل الغاز، وضرب المصلين، واعتقال الكثيرين، وغير ذلك من تصرفات باتت يومية، ومعتادة للأسف.
نحن هنا أمام السؤال عما يمكن فعله من أجل وقف التصرفات الإسرائيلية، وهي التصرفات التي تعبر عن مشاريع مختلفة، أقلها إعادة صناعة هوية الحرم القدسي، أو تقاسمه جغرافيًا أو زمنيًّا، وهي قصة أثيرت مرارا، طوال سنوات ماضية، بما يؤشر على مهددات هوية الحرم القدسي، وهي مهددات لا تتراجع، بل تزداد حدتها كل يوم، خصوصا هذه الأيام.
المراهنة على ردود الفعل الغاضبة، وصعودها، ثم خفوتها، أمر خطِر، لأن هذه المراهنة تثبت كل مرة أننا أمام موجات مؤقتة من الغضب، بات الاحتلال ذاته يعرف كيف يدير رد فعله بحقها، فهو يحاول أن يستوعب الضربات الكبرى، مثلما شهدنا في رمضان، وبعده، لكنه لاحقا يعود إلى طبيعته المعروفة، ويرتكز إلى مبدأ تطويع الجمهور، بشكل متدرج، من أجل الاعتياد على هذه التصرفات، باعتبارها أمرا عاديا، ولا مفر منه، ويمكن قبوله، مقارنة بأحداث كبرى قد لا يقبلها الفلسطينيون والعرب، وبهذا المعنى نُحشَر في زاوية الاعتياد والقبول لممارسات يومية، وتغيير تدريجي لهوية المكان، مقارنة بمواجهات كبرى.
ما يمكن قوله هنا، أن الكلفة والخطورة واحدة، سواء لجأت (إسرائيل) لسيناريو القتل والقصف، أو سيناريو التهدئة والتدرج وتغيير هوية المكان والسيطرة عليه بهدوء، ولا فرق كثيرا بين الأمرين، إلا كون الأول يستثير العواطف، في حين أن الثاني لا يستجلب رد فعل فوريا، لكنه من حيث النتائج يؤذي إستراتيجيا، ويجعلنا أمام مدينة تتغير هويتها، وهذا ربما أخطر من الحرب.
علينا هنا، ألا نبقى في دائرة رد الفعل، فما يجري هذه الأيام في القدس، والمسجد الاقصى، أخطر بكثير مما شهدناه في رمضان، وبعد رمضان، من مواجهات.