فلسطين أون لاين

"قَبَس" نزار بنات وإخوتها بـ"قلوبٍ تلتهب": "ارجع يابا"

...
غزة- هدى الدلو:

40 يومًا لازم فيها "نزار" المعروف بقوته وجرأته وصلابة رأيه البيت على غير عادته، ليجاور وسادة زوجته التي وضعت مولودتهما "ماريا" قبل شهرين، بعد إصابتها بفيروس كورونا، وكانت تعاني حالة صحية صعبة، ليكون لها الطبيب والزوج والصديق والسند بعد رفضه مكثها في المستشفى بعيدة عن عينيه الخضراوين، وبمجرد النظر إليهما يسكن لها أي وجع وداء.

بتنهيدة طويلة بدأت "جيهان" زوجة نزار بنات حديثها مع صحيفة "فلسطين" عن تلك الأيام المؤلمة: "هيأ نزار إحدى غرف البيت، وزودها بالأجهزة والمعدات وأنابيب الأكسجين، وكان يتابع الساعة والدقيقة في مواعيد الدواء والعلاج، لم يسمح لأحد أن يتدخل في علاجي ومداواة أوجاعي، أو أن أغيب عن عينيه، وتولى مسؤولية البيت والأبناء".

منذ 19 عامًا، عندما اجتمعا في بيت واحد، كان الشيء الوحيد الذي يحاول نزار إيصاله لجيهان هو أنه صاحب مبادئ ورسالة يريد إيصالها للبعض لكي تكون له بصمة في الحياة، "شخصيته لا تقبل الظلم، وتقول الحق ولو على قطع رقبته، لا يخاف أحدًا، والضغط الذي يمارس عليه وعلى الفلسطينيين يحتم عليه أن يخرج ما بداخله".

وتوضح جيهان أن اعتراضه على بعض القضايا والمواقف في البداية كان يمر مرور الكرام، وبعد 2011 كانت بداية اعتقالاته من قبل الأجهزة الأمنية (التابعة للسلطة) ومع ذلك لم يحد عن طريق الحق، ولم تحاول جيهان يومًا أن تثنيه عن مواقفه فتعرف شخصيته القوية، بل كانت داعمة له، مضيفة: "أنا أيضًا لا أقبل أن يتخلى عن مواقفه، أو أن يقطع الطريق من نصفه، بعد أن سلكه بعزة وكرامة ورأس مرفوع".

ولم تمل أو تضجر من طلبه منها تصوير مقاطع الفيديو التي يعلق فيها على بعض القضايا التي تهم أبناء شعبه، والتي قد تمتد لخمس ساعات تصوير لأجل خمس دقائق، والتي يُظهر فيها شبهات الفساد، فتصوره مرة واثنتين وثلاثة حتى يظهر بالشكل القوي والرسالة التي يريد إيصالها، حتى باتت تفهم إشاراته ونظراته خلال التصوير دون أن يتفوه بكلمة واحدة، وأصبح يتشاور معي في الفكرة والتصوير.

شخصية نزار -وفق حديث زوجته- لم تكُن هينة، فقد كان يعطي ثلثي وقته في متابعة الأحداث الوطنية والقضايا، والقراءة، فلا تغيب عنه أي قضية، يقضي وقته في المكتبة المنزلية، فكان قارئًا نهمًا ومثقفًا، ومع ذلك كان الأب الحنون والمحب لأبنائه، والمتابع لشؤونهم، والغارس فيهم لقيم الجرأة في قول الحق، وعدم التنازل عنه.

تشير جيهان إلى أن أمن السلطة غيب نزار قسرًا عن بيته، وحرم أطفاله الخمسة من حنانه، ليذيقهم طعم اليُتم والحرمان إلى الأبد، "فقد اعتقلوه حيًّا وبصحة جيدة، وأعادوه لنا جثة هامدة عليها آثار الاعتداء والضرب".

وقبل أن يقطع حديثها أصوات المعزين لها والمواسين تقول: "قتلوا نزار، لكنهم تركوا خلفه قبس ومريم وكفاحًا وخليل وماريا على دربه، يحملون نهجه وفكره، وسيدافعون عن حقهم حتى النفس الأخير، ولن نتنازل عن مطالبنا في محاسبة كل من له يد في قتله".

ابنته قبس التي جلست بجوار جثمانه تبكي ولا تقوى على رفع ظهرها بعد أن كسرها اغتياله، وترجوه وكأنه يسمع نحيبها كالطفل الصغير: "يابا مشان الله قوم، مين بده يلبسني ثوب التخرج"، وعندما حمل المشيعون جثمانه لحقت به لخارج البيت تنادي عليه: "يابا يا عمري ارجع يابا.. مع السلامة يا حبيبي يا حياتي" وهي تلوح له بيدها، ويحاول أقاربها تهدئتها "أبوكِ ما مات".

أما والدته "أم غسان" فقد ارتكزت بيديها على قبره وكأنها ترثيه بكلمات متقطعة، تخرج من قلبها الموجوع: "يا مثقف يا شريف يا عفيف، يا حر وابن الحر، يا أسد وأخوالك أسود من قبلك، سلم على خالك عبد الله يما" واختنق صوتها بالدموع ومع ذلك أكلمت "وسلم على خالك أحمد وعبيد، وسيدك سبع الليل أبو الثوار، من مصغرك وأنت مفخرة".

بعد اتصال باغتهم يخبرهم فيه المتصل أن نزار أصيب في قدمه، لم يتحمل والداه المكث في الأردن دون العودة إلى مسقط رأسهم للاطمئنان على ابنهم، ورغم ضجيج قلب أم نزار وعدم هدوئه وكأن هناك شيئًا أكبر من الإصابة، إلا أن الهواجس تلاشت وقررت أن تجاوره في المستشفى لحين أن يكتب له الطبيب خروجًا بعد تماثله للشفاء، لتعوض 5 سنوات بعده عنها، وعلى جسر الأردن وفي أثناء تصفحها بهاتف زوجة أخيها صدمها خبر قتل نزار الذي كان يضج بكل المواقع، لم تستوعبه بأي طريقة "صدمنا"، وهي التي رسمت المخططات لقضاء الوقت معه.

عاشق

تتحدث أم غسان عن ابنها نزار الذي كان مختلفًا في كل شيء عن إخوته، حتى في شهور حمله في أحشائها بكثرة الحركة ونشاطه غير الطبيعي، وكذلك في مهده، وطفولته، فعندما بلغ خمسة أعوام بدت عليه تصرفات تفوق سنه، وفي مراحله الدراسية حصد المراكز الأولى.

وتقول: "نزار كان متميزًا في دراسته وتفوقه وحصل على المركز الثالث في المملكة الأردنية بالتوجيهي، وحتى شكله وملامحه الجميلة في عيونه الملونة الحادة كالنمر، منذ طفولته لا يقبل بالظلم، ومدافع عن الحق نشيط في المسيرات واتحادات الطلبة خلال مرحلة الجامعة".

وتسرد أنه كان عاشقًا لفلسطين وترابها وهوائها، ينتظر العطلة الصيفية ليرافق عائلته في الزيارة لمدينة الخليل، انتظر تخرجه بفارغ الصبر ليعود لها وحيدًا تاركًا أهله لينعم في بلاده وعبقها، تذكر أنه لم يرغب في التقيد بوظيفة معينة، أو أن يرى الظلم بعينه ويصمت فكان ذلك دافعًا لتركه وظيفة في الحكومة وأخرى بالوكالة، ليعمل حرًّا في منجرة خاصة لكونه يمتلك موهبة في الرسم على الزجاج والحفر على الخشب.

في مكالمة هاتفية قبل شهرين، وبعدما كثرت ملاحقته واعتقاله، في أثناء حديثهما معًا قالت له: "يما زوجتك لسه صبية، وعيلتك كبرت، اترك طريقك بلاش يغتالوك زي باسل الأعرج"، رد عليها دون تفكير: "يما ما بقدر الكلمة الحرة بتمشي بدمي، هذه طريقي ما بحيد عنها، فالموت واحد والرب واحد، فأنتِ من تضربي المثل بأخوالي المقاتلين بالبارود وأنا مقاتل بالكلمة".

وبصوتها المهتز وجعًا، تتابع حديثها: "نزار لم يكن فقط ابني، بل رفيقي في الحياة والمبدأ والرسالة، منذ طفولته وأكثر شخص استمع له ولحديثه الذي لا ينتهي، رغم أن شخصيته قوية وكنت أعرف أنه سيخرج من أي أزمة إلا أني كنت أكثر أبنائي خوفًا عليه، وأحمد الله على اليوم الذي يمر دون أن أسمع فيه خبرًا سيئًا".

حاولت أن توجز في حديثها عنه بأنه "فقير المال لكن غني الأخلاق والرجولة والثقافة والوطنية، كنت أتوقع موته ولكن ليس بهذا الشكل البشع الذي يدل على بشاعة المنفذين، فلمن نشتكي ونطلب حقه والقاضي هو القاتل"؛ وفق تعبيرها.

تأمل أم غسان أن يكون اغتيال نزار الشرارة لتغيير الواقع الفلسطيني، ولن تتخلى عائلته عن مشواره التي ستكمله زوجته وأبناؤه من بعده.