فلسطين أون لاين

الصحفي المقدسي محمد ادكيدك: "بالصورة أُشكل فارقًا"

...
إعداد- د. زهرة خدرج:

أن تولد في البلدة القديمة يعني أنك قد امتلكت حظًّا وافرًا يتمناه كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، وأن تعيش في أروقتها تلك ميزة خاصة ونعمة حباك الله بها لا شيء يشبهها في الدنيا، جذورك تمتد، وتتغلغل وتربطك بالمكان بحبال متينة لا فكاك منها، فكيف بمن أضاف إلى ذلك القرب من المسجد الأقصى؟! تعبق ذكريات طفولتي بأشرطة وتسجيلات تتراءى أحيانًا كثيرة في مخيلتي فأشعر بها وكأنها كانت أمس أو أول أمس على أبعد تقدير، مثل شمس لم تكد تغيب حتى عاجلت إلى الإشراق مرة أخرى مبددة ليلًا انتهى وولى في سبيله، أراني ألعب الكرة مع أترابي في ساحات المسجد الأقصى، أركض وأسابق وألهو مثل نسمات الهواء لا تعرف لها مستقرًّا ويغريها أن تدور في كل مكان دون أن تتعب أو تمل، لم أكن لأتذكر أن هناك بيتًا عليَّ أن آوي إليه إلا إذا لسع الجوع أحشائي أو فرش النوم عرش سلطانه على عيوني أو غالبت جسدي حمى أو سقم، أركض حينها إلى بيت العائلة الكبير في حي باب حطة، حيث يسكن جدي وجدتي وأعمامي وأسرهم وأسرتي أيضًا، وعندما بدأ البيت يضيق على ساكنيه الذين تضاعف عددهم وواجهوا تضييق الاحتلال ومنعهم من التوسع والبناء على أرضهم، اضطرت الأسر الصغيرة إلى الانتقال من البلدة القديمة إلى العيسوية شرقًا.

سكنتُ العيسوية مع أسرتي، ولكن بقي المكان الأول يسكنني ويجذبني، فأتذكر أبا تمام رغمًا عني وهو يقول:

كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى *** وحنينُــه أبــدًا لأوّلِ منــــزل

مرت سنوات الصِّغر على عجالة، ظل بيت جدي في حي باب حُطة يحوز أغلب أيامها وشهورها، حتى جاء العام الذي سأتقدم فيه للثانوية العامة، وكان لا بد من التفرغ للدراسة، ولكن كيف يكون ذلك، ولا قِبَل لي بالابتعاد عن البدة القديمة، وبيت العائلة الكبير يضيق فيه على من فيه؟!

عاجل حلٌّ إلى ذهني من تلقاء ذاته، ولست أول ولا آخر من يسير في دربه: ستكون الدراسة للثانوية العامة في المسجد الأقصى شيئًا رائعًا، فهدوء المكان، وسعته وجماله لا بد أن تُشكِّل فارقًا لدي.

شعرت ببركة المكان التي انعكست عليَّ بالحفظ السريع والقدرة العجيبة على التركيز، وخرجت من محطتي الأولى بنجاح فتح لي أبوابه لأختار مهنة المستقبل.

دفعتني الرغبة لحفظ سيماء الأماكن ورصد ما يطرأ عليها من تغيير، خاصة مع احتلال يعمد إلى مسح المكان وتغييره وطمس هويته، وإكسابه هيئة جديدة تتماشى مع السمات التوراتية وتاريخها المزيف؛ نحو التصوير الفوتوغرافي والصحفي.

كنت أريد للعالم أن يرى ما يحدث في مدينتي، أنقل له المشهد الفعلي واللحظة كما أراها حتى يشعر بأنه جزء منه، أوثق الأحداث لعلني أغير من الفكرة الخطأ الظالمة التي وجدت من ينشرونها عنا؛ ففي أثناء سفري واحتكاكي بالعالم أدركت أن العالم لا يدري كثيرًا مما يجري هنا برغم وجود الإعلام وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، كثيرون في العالم ما يزالون يظنون أن أهل القدس يبيعون بيوتهم وأرضهم للمستوطنين، أرادوا تزييف الحقيقة، ومواراة وجه الاحتلال القميء بقناع زائف ذي ألوان زاهية بريئة تتماشى مع صورة الديموقراطية التي رسمها لنفسه وأشاع وجودها (واحة الديموقراطية في صحراء التطرف والإرهاب)!

أردت أن أترك عدسة كاميرتي التي لا تكذب لتخبر العالم كله وتقول: نحن لم نبع، نحن متمسكون بحقنا، ولكننا نُهجر تهجيرًا قسريًّا منظمًا، نواجه اقتلاع جذورنا من مدينتنا العتيقة، هذا أصل الحكاية.

وكان توقي لأن أدع العالم يرى جمال بلادي سببًا آخر في ربط مسار حياتي ومستقبلي بالتصوير الصحفي.

القدس سيدة جمال الأماكن، وهي واحدة من أقدم مدن العالم، وموطن القداسة والتراث والتاريخ، القدس ليست فقط المسجد الأقصى وكنيسة القيامة أبدًا، القدس مدينة تتكون من سبع طبقات، سبع مدن مبنية بعضها فوق بعض، ما يزال أهل القدس يكتشفون آثارها القديمة التي تحكي تفاصيل الحضارة السابقة التي نشأت فيها والأمم التي تعاقبت عليها واحتلتها، وتُكذب وتدحض الرواية التلمودية التي يبذل الاحتلال جهده لتثبيتها، وما ظنكم بمدينة يعود تاريخها إلى أكثر من خمسة آلاف عام؟! ألا تستحق منا عناء أن نبذل كل ما بوسعنا لتعريف البشر في كل مكان بكل اللغات التي يمكن للصورة أن تتكلمها بطلاقة: القدس وقضيتها وحقيقة ما يجري فيها؟!

وللوصول لهذا الأهداف عملت في مشواري مع الكاميرا مصورًا حرًّا مع وسائل إعلام عدة.

القدس الآن في دائرة الخطر، أهلها محاصرون بإجراءات الاحتلال التي تُقيدهم وتتحكم في أدق تحركاتهم اليومية، قلت لكم في البداية إنني ولدت وترعرعت في البلدة القديمة وأمضيت طفولتي على بلاط الأقصى، وتصوروا معي ما يحدث، واسمعوا مني هذه الحكاية:

كان ذلك قبل خمسة أعوام، تحديدًا في "عيد العُرُش" عند اليهود، فرض الاحتلال طوقًا أمنيًّا ووضع قيودًا وتشديدات على تحركات الفلسطينيين، في الصباح الباكر من ذلك اليوم في الساعة السابعة تحديدًا قصدت المسجد الأقصى، وما إن دخلت حتى شاهدت المستوطنين يقفزون ويمارسون طقوسهم أمام الشرطة، استفزني ذلك جدًّا؛ فأنا مسلم وهذا مسجد فماذا يفعل هؤلاء هنا؟! وزاد الطين بلة أن تمادى المستوطنون وصعدوا إلى سطوح الصخرة، لم يوجد هناك من يمنعهم، ولا شعوريًّا وجدتني أندفع وأقف في وجوههم أريد أن أصدهم وأحول بينهم وبين التقدم وتدنيس المكان، وقفت أمامهم وأخرجت موبايلي وفتحت بثًّا حيًّا على (فيس بوك)، ليرى العالم تعديهم على مقدساتنا وتدنيسهم لنا، لم أفعل أي شيء آخر.

هاجمني أفراد الشرطة الخاصة (قوات اليسام)، وتعاملوا معي وكأني إرهابي مدجج بالسلاح يحمل الموت الزؤام في عدسة موبايله.

أمرهم الضابط المسؤول باعتقالي وإلقائي خارج الأقصى، قاومتهم، فلست ممن يتلقون الصفعات ويصمتون، فأنا فلسطيني أدافع عن نفسي بشراسة، دفعني الضابط، فدفعته، ولطمني على وجهي فسددته اللطمة بمثلها في منتصف وجهه، ما دام الأمر كذلك لا يمكنني إلا أن آخذ حقي في اللحظة ذاتها تلقائيًّا، ضربوني بالدبسة فشعرت بدوار عنيف يلف رأسي.

في التحقيق اتهموني بأني من المرابطين، وبأني من خلية شباب الأقصى التابعة لحماس، وبأنني قائدها، سخرت منهم قائلًا: "ربما تتهمونني بأنني محمد الضيف أيضًا".

وقلت للضابط: "ما دمت بارعًا بإلقاء التهم جزافًا هكذا، أرني شطارتك وأثبت ما تقول، الكلام لا جمرك عليه، فقل ما تشاء وألقِ من التهم ما تشاء، ولكني سأفوِّت عليك فرصة أن تترقى على حسابي".

فقال الضابط حينها: "لدي من الإثباتات ما يدينك".

قلت: "ما هي؟".

قال: "أنت تدخل إلى الأقصى في أوقات كذا وكذا، من باب كذا، وتمضي كذا من الوقت".

اكتشفت حينها أنهم يراقبوننا جيدًا، ويعدُّون علينا خطواتنا وأنفاسنا وحركاتنا وسكناتنا، الكاميرات تملأ شوارع البلدة القديمة وبوابات الأقصى من الخارج، توثق وجه كل شخص يدخل ويخرج، فإذا تكرر الدخول والخروج عاجلوا إلى قرار الإبعاد.

وسلَّموا إلي في ذلك اليوم قرارًا بالإبعاد مدة شهرين عن البلدة القديمة والأقصى.

أتحاشى الآن الوجود يوميًّا في المسجد الأقصى لأفوت عليهم فرصة إبعادي مرة أخرى، ولكني أحوم حوله وأبثُّ صورًا تتحدث بلسان المكان المقهور، ومشاعر الإنسان الذي يتطلع إلى الحرية والانعتاق.