لم يكن سهلًا على السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية بالضفة الغربية قبول استمرار المعارض السياسي نزار بنات في المجاهرة بالرأي ورفض سلوكها وسياساتها وفسادها؛ لأنه ليس من عادة الأنظمة القمعية الاستماع إلى الأفكار المعارضة.
اغتيال بنات حدثٌ فارقٌ تمامًا في الحالة الفلسطينية، فقد أظهر أن السلطة لا تقوى على معارضة الفرد، فكيف تقبل فكرة وجود تعددية سياسية تؤسس لمعارضة تنظيمية أكثر اتساعًا، خاصة إذا كان هذا الفرد مهتمًا ومدافعًا عن قضايا المبدأ وليس المنفعة الشخصية مثل نزار؟
قررت السلطة قطع الطريق على هذا الشكل من أشكال المعارضة التي تحظى باهتمام وتضامن واسعين؛ نظرًا لأن الطبيعة تنتصر كعادتها للفرد، وقد يكون هذا انعكاسًا لعجز القوى السياسية عن أداء هذا الدور في بيئات الاستبداد، لذلك تحاول السلطة بناء حواجز الخوف بينها وبين الشارع الفلسطيني المحبط واليائس منها، دون تقدير العقبات التي قد تجعلها حبيسة هذا الخوف.
إن الإقدام على اغتيال نزار هو نتيجة تدفق شلالات الخوف لدى السلطة من تنامي "ظاهرة بنات"، بنشوء العديد من الحناجر المعارِضة التي تهاجم فسادها وضعفها، الذي غذّى بنظر الشارع الفلسطيني انتهاكات الاحتلال ومستوطنيه بالضفة، ومنحهم غطاء للقتل والاستيطان واقتحام البيوت والاعتقالات الليلية.
حتى لو استطاعت السلطة امتصاص الغضب من اغتيال بنات فإن ذلك لا يعني انتصار الاستبداد، بل المراكمة على الفشل، والخضوع للمزيد من الانهيار، لكن الخطورة ليست في الإفراط بالفساد وفتح المجال أمام المزيد من الاغتيالات السياسية فحسب، إنما هي في انعكاس كل ذلك على مستقبل السلطة، الذي سيفتح الباب للاحتلال للتدخل ووضع دعامات استمرار حكمها، أو حسم الموقف وبسط سيادته أكثر، وإدارة القرار الأمني بالضفة، بما لا يسمح للمعارضة والقوى السياسية باستغلال الموقف وتسجيل مكاسب ميدانية.
وصلت رسالة نزار التي تعرض لأجلها إلى العديد من محاولات الاغتيال والترهيب والاعتداء، بأنها سلطة غير مؤتمنة، وتعمل ضد المطالب الديمقراطية، وضد المواطَنة، ولن تكون قادرة على تمثيل شعبنا، وأنها هي التي تُغذّي الانقسام وتعيش عليه. كما لن يكون خطابها السياسي الخارجي بعد جريمة الاغتيال مقبولًا لدى الأنظمة والدول العربية التي تحاول الاقتراب من الاحتلال، حين تكون السلطة ملتصقة به وبمصالحه الأمنية.
إن الأحداث الجارية بالضفة قد تدفع القيادة السياسية الجديدة للاحتلال إلى إعادة النظر في استمرار القطيعة العلنية مع قيادة السلطة؛ لأن تعزيز الأنظمة القمعية مصلحة إسرائيلية على المستوى الإستراتيجي، في ظل أن السلطة بجريمة اغتيال نزار وصلت إلى قمة عدم النضوج الذي يجعلها تتورط في مواجهة مع شعبنا؛ لخدمة بقائها وحماية الاحتلال منه. إن اغتيال نزار يجب أن يعني لبعضنا الآخر أن ما رفضوا تصديقه عن السلطة هو الحقيقة.