ضاقت دولة بولندا ذرعاً بالابتزاز الإسرائيلي، وأصدرت القوانين الخاصة بها، التي تتنكر للأكاذيب الإسرائيلية عن المحرقة، وترفض تحميل الشعب البولندي المسؤولية عن الأكذوبة التي امتد عمرها لقرابة ثمانين عاماً من الابتزاز السياسي والمالي، الذي أسفر عن دعم سياسي غير محدود للعدوان، وعن جني مليارات الدولارات تعويضاً عن أملاك اليهود البولنديين المصادرة في زمن الحرب العالمية الثانية، أو المُؤمَّمة لصالح الشعب البولندي.
لقد قررت حكومة بولندا التمرد على بيت الطاعة الإسرائيلي، وعدم التفريق بين الأعراق والأديان داخل بولندا، وإذا كان بعض اليهود البولنديين قد تعرضوا للقتل، فقد تعرض أضعافهم من البولنديين الآخرين للقتل، فلماذا العنصرية في التعامل مع اليهود بشكل يختلف عن غيرهم؟ هذا هو منطق رئيس الوزراء البولندي، الذي كان جريئاً وشجاعاً، وأقسم أنه لن يدفع دولاراً واحداً لليهود تعويضاً، وكذلك فعل وزير الخارجية البولندي، وهكذا كان مزاج الشعب البولندي الذي صوت بأغلبية ساحقة على القانون الذي يحمي ممتلكات الشعب البولندي من الابتزاز، وهذا ما أغضب وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد، فاعترض على القانون البولندي، واعترض على السياسة البولندية بشكل خلا من الدبلوماسية، وقال: إن هذا القانون آثم، ليس ثمة قانون بإمكانه تغيير التاريخ.
وهنا لا بد من وقفة عربية فلسطينية على حديث وزير الخارجية الإسرائيلية، وهو يقول جملة: ليس ثمة قانون بإمكانه تغيير التاريخ.
وهذه حقيقة علمية تمطت ظهرها الأكاذيب الإسرائيلية، وصهلت بمصالحهم في كل أرجاء الأرض، حقيقة يتغافل عنها حكام العرب، أصحاب الحق في أرض فلسطين، الذين ألزموا أنفسهم بقوانين واتفاقيات مع الإسرائيليين لا يمكنها تغيير التاريخ.
فكيف نسي حكام العرب والحكام الفلسطينيون تاريخهم وحقوقهم على أرض فلسطين في الوقت الذي لم ينسَ اليهودي الإسرائيلي أكاذيبه على أرض البولنديين؟ وكيف نسي حكام العرب بعد التوقيع على الاتفاقيات ملايين اللاجئين الفلسطينيين المشردين في أصقاع الأرض؟ وكيف نسي حكام العرب والفلسطينيين الأرض الفلسطينية التي اغتصبها الصهاينة قبل أكثر من سبعين عاماً، ويشهد على ذلك كل قادة العالم وزعمائه الأحياء منهم والأموات، الذين شجعوا في لحظة تعاطف الأكذوبة عن الهولوكوست، ودعموا الصهاينة بالمال والسلاح لإقامة دولة اسمها (إسرائيل) على الأرض الفلسطينية، وعلى حساب سكانها الذين ما زالوا لاجئين؟
فمتى سيصحو حكام الشعوب العربية من غفلة السلام، وهم يوقعون الاتفاقيات مع دولة لا تصون كرامة الأمم، ولا تحترم إرادة الشعوب، وتصر على أن تكون فوق القانون الدولي، وتتدخل في أدق تفاصيل حياة الأوروبيين والإفريقيين والأمريكيين وغيرهم؟
صحوة الشعب البولندي على أكاذيب الصهاينة ليست الأولى، فهناك أصوات بدأت تعلو في كل البلاد الأوروبية، تتحدى الابتزاز اليهودي لثرواتهم، وتعيب على الساسة ضعفهم أمام التسلط الإسرائيلي، وهو يفرض عليهم الضرائب، وكأن بلاد أوروبا أراضٍ فلسطينية محتلة من هذه الدولة المتسلطة، فجاء القرار البولندي بالانفلات من حظيرة الطاعة الإسرائيلية كمقدمة لتمرد أوروبي وغربي، ظهرت ملامحه في كثير من المواقف الجماهيرية المناهضة للسياسة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، وتجسد ميدانياً بخروج الملايين من شعوب أوروبا ضد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، فإذا بالطائرات الإسرائيلية والصواريخ الإسرائيلية التي تقصف غزة، وتهدم الأبراج، تقصف في الوقت نفسه رأس المال السياسي والاقتصادي الإسرائيلي الذي سيطر على حياة الشعوب الأوروبية عشرات السنين.
التمرد البولندي بداية لتمرد كل أوروبا، فالتشريعات البولندية لا تقف خلف الحدود، إنها تطوف بجرأتها كل المدن الأوروبية، وهي مادة التحريض على تهشيم رأس عجل المحرقة الذي ظل مقدساً لعشرات السنين، وهذا مكسب سياسي إستراتيجي أسهمت في إنجازه المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وهي تفضح الجرائم الإسرائيلية، وتكشف عورة الدولة الإرهابية.