تمضي الأيام فوق ملامحه بخطواتٍ ثقيلةٍ، إذ فُتحت له أبواب سجون الاحتلال منذ بلوغه السادسة عشرة من عمره، وتوالت بعدها الاعتقالات التي ساوت في مجموعها سبعة عشر عامًا، أكلت من عمره، في كل مرة كان يخوض فيها ملحمة من الانتظار، والبعد عن أبنائه وزوجته.
خطوط المعاناة المرسومة على ملامح وجهه وسنوات السجن التي غيَّرت لون شعره إلى الأبيض، أسر ابنته "بشرى" في كل مرة يتم فيها الإفراج عنه، سرقة أمواله وسيارته، وإبعاده، ومحاصرته، والتضييق عليه، كلها انتهاكات لم تكسره، فبقي جمال الطويل الذي لم تكسره السجون وظلمة القضبان، وهو يحمل سنوات عمره التي شارفت على طرق الستين عامًا.
الطويل اعتُقل أكثر من 11 مرة قضى معظم سنيِّها في الاعتقال الإداري، وبدأ اعتقاله الأخير بإضراب مفتوح عن الطعام منذ مطلع يونيو/حزيران الجاري، لليوم الخامس والعشرين تواليًا، للمطالبة بإنهاء الاعتقال الإداري لابنته "بشرى" المعتقلة منذ ثمانية أشهر، وكانت قد هددت بخوض إضراب بعد تجديد اعتقالها لمدة أربعة أشهر، لكن والدها حمل عنها وطأة الإضراب وأضرب نيابة عنها، لوقف سياسة تبادل الأدوار التي يستخدمها الاحتلال بينه وابنته.
زوجته منتهى الطويل التي تحفظ تواريخ اعتقال زوجها وابنتها بدقةٍ، تُدخل صحيفة "فلسطين" في تفاصيل الحالة الصحية لزوجها بسبب الإضراب، موضحة أن وزنه انخفض 14 كغم، ويرفض تناول المدعمات، ويعيش على الماء والملح ويعاني الدوار ووجع الرأس.
شاب رأسه، وغيرت السجون ملامحه وترك العمر بصمة عليه، مناصب عديدة حُرمها، كان الاحتلال يريد منه رفع "الراية البيضاء" والانضمام إلى صفوف الساكتين على التهويد والاستيطان، لكنه قال "لا" وفضَّل السجون على الخضوع والانكسار، تقول زوجته.
"دورنا ألا ننزل عن الجبل حتى تتثبت معادلة جديدة من المقاومة الشعبية والانتفاضة الباسلة، والمطلوب اليوم تثبيت النصر والمراكمة عليه ومواصلة الرباط في الميادين"، كان هذا آخر ما صرح به قبل أسره تعقيبًا على انتصار المقاومة في معركة "سيف القدس".
الملاحقة الأولى
تطير ذاكرة زوجته لبداية رحلة زوجها مع الأسر وكانت المحطة الأولى قبل زواجهما، إذ كان طالبًا لم يزد عمره على الستة عشر عامًا، بتهمة المشاركة في رشق الحجارة على قوات الاحتلال التي اعتقلته في 14 يونيو 1989 لسبعة أشهر ونصف، تعرض خلالها لتحقيق قاسٍ "في ذلك الوقت تزوجني ورُزقنا بابني البكر عبد الله الذي لم يزد عمره حينئذ على تسعة أشهر".
لكن المحطة الأصعب في حياة زوجها كانت إبعاده إلى مرج الزهور، إذ لا تزال تذكر ذلك التاريخ جيدًا، السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول 1992، في إحدى الليالي الباردة، جاءت قوة من جيش الاحتلال إلى عمارتهم بمدينة البيرة في الضفة الغربية المحتلة، لكن لوجود ثلاثة أشخاص يحملون اسم "جمال" انسحبت الدورية دون اعتقاله.
تسحبها ذاكرتها لتلك اللحظة في اليوم التالي الساعة الثانية ظهرًا، وقبل تناوله طعام الغداء، اقتحمت الدورية شقته واعتقلته بعدما تأكدت من هويته، مردفة: "نزلتُ خلفه لمحاولة ثنيهم عن اعتقاله لكن دون جدوى".
اعتقدت منتهى أنها رحلة أسر جديدةٍ سيخوضها زوجها كسابقتها، لكن إطلالته عبر شاشة التلفاز من منطقة مرج الزهور جنوب لبنان، جعلت أسئلة واحتمالات كثيرة تراودها حول مصيره وإن كان سيعود إليها أم ستكون رحلة طويلة من الغربة.
تقفز تلك الأيام أمام حديثها: "كنت حاملًا في الشهر الرابع بابنتي بشرى لحظة إبعاده، الإبعاد هزني وكانت أصعب مرحلة رغم أنها كانت عامًا فقط".
الخامس عشر من نيسان/إبريل 2002، تاريخ كان فارقًا في حياة العائلة، فقد سُجن جمال 5 سنوات و7 أشهر، مرت ثقيلة على قلب زوجته التي لم يسمح الاحتلال بزيارته "منعني الزيارة وكنت أرسل عبد الله وبشرى لزيارة والدهما بمفردهما، وعندما بلغوا سن السادسة عشر عامًا منعهم الزيارة أيضًا، وبقيتُ أرسل ابني نصر الله ويحيى مع الناس".
تسمع هشاشة قلبها المشتاق ونبضات حنينها المتسابقة على مضمار البعد "تزوجت أبو عبد الله منذ نحو 33 عامًا، نصفها قضاها في الأسر، اعتقلني الاحتلال لتنغيص حياته عامًا كاملًا ما بين فبراير/شباط 2010 وفبراير 2011، لم نستقر كأسرة مترابطة، الاحتلال دائمًا ينغص حياتنا، لم يحضر السنة الأولى من ميلاد أي من أبنائه".
إبعاده داخل السجن لم يبعده عن الناس، فكان كثيرًا يجبر الخواطر، في جعبة زوجته الكثير لتبوح به عنه، "كان أبو عبد الله يحب الخير للناس، ولديه حب كبير لوطنه والحرية له ولغيره، عمل إمامًا وخطيبًا لمسجد النجاح في مدينة البيرة، حتى اليوم، لكنه منذ 2008 ووزارة الأوقاف التابعة للسلطة تمنعه الخطابة في المساجد وإلقاء الدروس الدينية، لأن خطبه كانت تلامس هموم الناس، ويتناول في حديثه ما يتداوله الرأي العام".
ليلة الانقلاب
لم يكن الاحتلال وحده الذي حاول النيل من عزيمة الشيخ جمال، فقد دخلت السلطة على هذا الخط، في ذاكرة زوجته محطة أخرى "اعتقل فيها لديها عام 1998 مدة 10 أشهر في سجن أريحا، ويومها بحثت عنه ثلاثة أيام ولم أعثر على أي شيء يبرد مخاوفي عليه".
لا تزال تذكر التفاصيل، "ذهبت إلى مقر المقاطعة وهددتهم إن لم يكشفوا مكان اعتقاله خلال ربع ساعة، فسأخرج على وسائل الإعلام وأقول للعالم إن السلطة سلَّمته للاحتلال، وبالفعل أخبروني أنه معتقل في أريحا".
صاحب الإرادة الصلبة لم يكن صاحب نظرة ضيقة ومحدودة بل كان يكافح لإصلاح مدينة البيرة، ففاز برئاسة بلديتها في الفترة ما بين عامي 2008-2012، واعتقل مرة واحدة 3 أشهر خلالها، لكنها "كانت تجربة مريرة له ولنا كعائلة"، تقول زوجته: "منذ توليه رئاسة البلدية ضُيق عليه العمل، واكتشف وجود مافيات وتحالفات فيها، كانت هناك احتجاجات مفتعلة من الداخل ضده في كل مرة يكشف فيها فسادهم، لكن رأي الناس بفترة ولايته صنفت أنها الأفضل على مدار تاريخ البلدية، فقد أقام مشاريع تطويرية وتنموية رغم كل ما ذكرته وبدأ اسمه يلمع".
هذا النجاح لم يرُق للسلطة الفلسطينية كونه قياديًّا في حركة المقاومة الإسلامية حماس، فأرسلت أجهزة أمنها التي اقتحمت البلدية وطردته وأعلنت "الانقلاب عليه" والاستيلاء على البلدية وتشكيل لجنة لها.
أما ابنته بشرى (28 عامًا)، فقد كانت الهدف التالي للاحتلال، فتعرضت للاعتقال لأكثر من 40 شهرًا، في 5 عمليات اعتقال متقطعة، بدأتها وهي في السابعة عشرة من عمرها كوالدها تمامًا، وحكم عليها بـ16 شهرًا وقتها، وأفرج عنها بعد 5 أشهر في الدفعة الثانية من صفقة "وفاء الأحرار" عام 2012، لكن تم استكمال حكمها بعد أن أعاد الاحتلال اعتقال محرري الصفقة في الضفة الغربية عام 2014.
بذلك ينغص الاحتلال حياة العائلة "بلا مبررات تعتقل بشرى إداريًّا، فيفرج عن والدها، ثم يعتقلهما معًا وهكذا دواليك، يسلط سيف الاعتقال الإداري علينا"، تُكمل زوجته.