دقت ساعةُ الفرح، ولوحت أيدي الأطفال بعلم فلسطين في ساحة رشاد الشوا الثقافي بمدينة غزة، فما إن تجاوزت عقارب الساعة الرابعة عصرًا حتى انطلقت فعاليات مبادرة "نبض" التي نظمها فريق "رسالة الخير" بدعم من هولندا، وزرعت بها الابتسامات على وجوه أطفال تعرضت بيوتهم للقصف الإسرائيلي، لتأخذ بأيديهم بعيدًا عن أجواء الحرب والفقد.
اتجهت أنظار الأطفال إلى العم "فوفو" وهو يرتدي ملابس تتحالف فيها كل الألوان، ويبرز أنفه الكبير ذا اللون الأحمر، وشعره البرتقالي ونظارته الخضراء وسروالًا أحمر، مشهد أضحك الأطفال قبل صعوده على الدراجة الهوائية، واستعراضه حركات بهلوانية بطريقة كوميدية كانت كفيلة بانتزاع ضحكة أطول من أشداقهم، ثم بدأ يتقافز أمامهم في الهواء تلاحقه نظراتهم البريئة.
بعدما هدأت أنفاسه، لم تقل فرحة فؤاد عمر الملقب بالعم "فوفو" عن فرحة الأطفال وهو يعبر عن ارتياحه بإعجابهم بعرضه، مردفًا: "اليوم جئنا لنرسم البسمة على وجوه الأطفال، وننتزع رهبة الخوف والحرب من قلوبهم، فرغم كل الآلام كانوا سعداء، وسنظل نرسم البسمة على وجوه أطفالنا".
على خشبة المسرح، وقفت روان العزامي ابنة الخمسة عشر عامًا، بثقة في "أوبريت حواري" مع رفيقتها وهي ترتدي ثوبًا تراثيًّا وتتوشح الكوفية تسألها بقالبٍ فني:
- من أنت؟
أنا الإنسان الذي أعيش في وطني بلا عنوان.
- من أين أنت؟
أنا من فلسطين المحتلة، من مدينة القدس؛ بلد الأديان بلد المحبة والأحزان.
- هل تعتقد أن هناك سلامًا قريبًا؟
سلام؟.. السلام؛ ما هو إلا أوهام.. يتحدثون عن السلام ليل نهار، ولم يتجاوز الموضوع حد الكلام.
هدأ هدير أنفاس روان بعد العرض المسرحي، بدت سعيدة بما قدمته، تشق ابتسامةٌ قمحيةٌ طريقها في وجهها وصوتها كذلك: "سعيدة أنني قدمت فقرة فنية، تتحدث عن تخلي الحكام العرب عن القضية الفلسطينية، وتحالفهم مع الاحتلال والبحث وراء أوهام السلام ونحن نُقتل كل يومٍ".
جاءت روان تنفض غبار العدوان عن قلبها: "عشت أربع حروب، ولا يزال صوت الحرب الأخيرة في مخيلتي لم أنسَ تفاصيلها".
مثلت الفعالية الترفيهية فرصة لـ"أم أحمد" كما غيرها من الأمهات للخروج بأطفالهن من أجواء الحزن والكبت والآلام النفسية التي ألمت بهم بعدما عاشوا مجزرة "شارع الوحدة" المجاورة لبيوتهم، وظلت آثارها ترافقهم، موضحة أن "الحرب تركت أثرًا نفسيًّا كبيرًا على أبنائي"، تشير نحو ابنها مصطفى (6 سنوات)، وهي تكمل: "حتى اليوم لا يزال يستذكر صوت القصف، ويضع يديه على أذنيه، رغم أنني أخبره أن الحرب انتهت، لكنه يرفض إسدال ستارها بسهولة".
ولا تخفي حاجة أطفالها لهذه الأنشطة: "كانت فرصة للترفيه عن أنفسهم، كنا نحتاج إلى كمية كبيرة من البهجة والفرح، لأن ما حدث معنا ليس هيِّنًا، حينما قصفت طائرات الاحتلال شارع الوحدة دون سابق إنذار، وخرجنا نركض على وقع الصواريخ".
كشاعرة متمرسة على الإلقاء، وقفت الطفلة حنان الحداد على خشبة المسرح، وهي ترتدي ثوبًا تراثيًّا، وتتوشح الكوفية على كتفها، ملقية قصيدة تخاطب بها الحضور: "فلسطيني أنا مطحون، أنا مقهور، في بلدي لا هوية لي ولا عنوان، لأني فلسطيني من بلد الأديان، ولأني فلسطيني دمي مباح للجميع".
وهي تتجه نحو والدتها التي احتفت بثمرة جهدها وتعبها في الأسفل تضمها بين ذراعيها، بعد التصفيق الحار الذي حظيت به، عبرت عن فرحتها بقولها: "قدِمت إلى المهرجان وألقيت قصيدة، حتى يعلم الأطفال أنه رغم ما حدث سنبقى فداء للقدس".
بجانب خشبة المسرح كانت الطفلة ملك قزعاط (8 سنوات) تتحرك جيئة وذهابًا، تطلب من والدتها تقديم فقرتها الفنية، تتسابق مع نفسها وهي تمخاطب عريف الحفل: "بدي أفرجيهم إنه احنا مش خايفين"، وما إن أذن لها بالصعود على المسرح، قفزت الدرجات بلهفة وأمسكت "الميكرفون" من يد عريفة المهرجان وبدأت في إلقاء قصيدتها، والسعادة تغمرها.
على مدخل القاعة، تتطوع سمية شاهين في نقش الحناء على أيدي الأطفال، وهذا "تطوع مجاني، لتعويض فرحة العيد التي حُرمها الأطفال"، إلى جانبها تنتظر الطفلة بسنت وهي ترتدي ملابس حمراء زاهية، تعلو وجهها حمرة مشرقة، كربطة الشعر المتناسقة مع لون ملابسها، في حين تحاول لمار تجفيف الحناء الذي أخذ شكل ورود وهي تزفر الهواء بقوة على يدها وتقول: "مبسوطة كتير عشان خلصت الحرب واطلعنا من البيت".
مدير فريق مشاعل للفن للفتيات حيدر العف، عبر عن سعادته بالفقرات التي قدمتها فرقه قائلًا: "شعور عظيم إدخال الفرحة على قلوب الأطفال وإغداقهم بالهدايا والأناشيد والفقرات المسرحية والكوميدية، لنظهر للعالم أنه مهما حصل في غزة ومهما أصابها من كوارث فإنها تقف على قدميها وتقاوم رغم كل شيء".