في احتفالاتٍ بمرور خمسين عامًا على ما يسمى "توحيد القدس"، أي احتلال المدينة، قال رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، إن القدس كانت منذ القدم عاصمة "شعب (إسرائيل)" القومية وحدهم وليس أي شعب آخر، ولن يتم التنازل عنها أبدًا، وإن حرية العبادة فيها مصونة للجميع تحت السيادة الإسرائيلية، وإنها لن تعود لتصبح إيليا كابيتولينا، أي المستعمرة الرومانية التي شيّدت على أنقاض المدينة.
ودمج نتنياهو في خطاباته في هذه المناسبة بين الكذب والتضليل، خصوصا فيما يتعلق بحرية العبادة، وبين العنصرية، عندما قال إن هذه البلاد كانت شبه فارغة في القرن التاسع عشر، والعقائدية الدينية القومجية المتطرّفة، عندما قال إن المدينة كانت عاصمة قومية لليهود فقط (هل كان في ذاك العصر قوميات وعواصم؟)، لكنه خلص إلى موقفٍ سياسي بأن القدس ستبقى "موحدة"، لأنها "محور الوعي القومي الصهيوني"، وإنه لا أحد له الحق فيها سوى اليهود، وأن الانسحاب منها سيعني أن تلقى مصير تدمر والموصل، أي أن تقع تحت سيطرة "داعش". وفي رد غير مباشر، لكن في المناسبة ذاتها، قال الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، إنه لا يمكن الحفاظ على "وحدة المدينة" مع إهمال 40% من سكانها، أي الفلسطينيين، الذين يشكلون "الحيز المديني الأفقر في (إسرائيل)".
وفي مقابل الإصرار الإسرائيلي على محورية القدس في الصراع، واعتبارها خطًا أحمر لا تنازل عنه، وترويج أن القدس تعيش أفضل مراحلها بفضل الاحتلال الإسرائيلي، تعاني المدينة المقدسة وأهلها، بعد خمسين عاما على احتلالها، من إهمال فلسطيني كبير، يجعلها "تفوز بجدارة" بلقب أكبر وأفقر مدينة فلسطينية. وليس هذا التقدير استنادًا إلى المعطيات الفلسطينية فحسب، وإنما وفق الإحصائيات الإسرائيلية.
وفق معطيات إسرائيلية من العام 2015، يشكل العرب 37% من سكان المناطق التي تقع في نفوذ بلدية الاحتلال بالقدس الذي تضاعف عدة مرات، من 38 كلم مربعا قبل حرب 1967 إلى 108 كلم مربعة فور الاحتلال، ليصل اليوم إلى 128 كلم مربع، وتصل نسبة الفقر في أوساط فلسطينيي القدس إلى 79% (نسبة البطالة تصل إلى 30%)، وهي تشمل مخيم شعفاط والبلدات الفلسطينية الصغيرة في محيط المدينة. أما نسبة اليهود المتزمتين (الحريديم) فتصل إلى 23%، وتصل نسبة الفقر في أوساطهم إلى 50%، وعموما الحريديم هم من الشرائح الأفقر في (إسرائيل). أما البقية من سكان المدينة، أي 40% تقريبا، فهم ليسوا عربا ولا حريديم، أي يهودا علمانيين أو محافظين، وتصل نسبة الفقر لديهم إلى 27%.
وبحسب المعطيات الإسرائيلية والفلسطينية، تفوق نسبة الفقر في القدس مثيلتها في قطاع غزة المحاصر (40%)، ويقدر بأن 117 ألف طفل مقدسي يعيشون تحت خط الفقر من أصل 230 ألف مقدسي يعيشون تحت خط الفقر وفق المعايير الإسرائيلية.
وإذا ما أضفنا هذه المعطيات المأساوية إلى منع شرائح واسعة من الفلسطينيين في الضفة وغزة والقدس من الصلاة بحرية في المسجد الأقصى، وهو ما يؤكد كذب نتنياهو، إلى الهدم الحثيث للمجتمع المقدسي من خلال التضييق عليه سياسيا واقتصاديا، فإننا أمام واقعٍ غير مبشر للمدينة المقدسة، وكل الحديث الإسرائيلي بأن المدينة تعيش أفضل مراحلها تحت السيادة الإسرائيلية مجافٍ للحقيقة. وضع الاحتلال المقدسيين أمام خيارين من خلال التضييق الاقتصادي، الخروج من المدينة والانتقال إلى الضفة الغربية، وبذلك يخسرون إقامتهم في المدينة، أو التخلي عن هويتهم الوطنية، والاندماج والعيش الذليل على الهامش الإسرائيلي، وهما خياران أحلاهما مر.
وليس الواقع المقدسي قدراً، بل هو مبرمج إسرائيلياً، إذ منذ اللحظة الأولى لاحتلال الجزء الشرقي للمدينة في يونيو/حزيران 1967، باشرت الحكومة الإسرائيلية بفرض وقائع جديدة على الأرض، تمنع مستقبلا الانسحاب من المدينة. فأولى الخطوات كانت هدم حي المغاربة المتاخم لحائط البراق، بزعم إتاحة المجال لليهود للصلاة في المكان، وترحيل 135 أسرة فلسطينية وفق المعطيات الإسرائيلية. وبعد أيام من احتلال البلدة القديمة، باشرت بلدية الاحتلال تنفيذ مشاريع استيطانية لتثبيت السيادة الإسرائيلية، إذ صادر الاحتلال 3345 دونما على تخوم الجزء الشرقي للمدينة لربطه بالجزء الغربي، وإسكان 10 آلاف مستوطن يهودي. أي أن واقع الاستيطان والإفقار والهدم المجتمعي لم يكن عشوائيا، بل إن حربا معلنة على المدينة وأهلها منذ يونيو/حزيران 1967 لا تزال مستمرة. وهذا الواقع لم يقابل باستراتيجية عربية أو فلسطينية حقيقية، ترى في القدس مدينة مقدسة وعاصمة مستقبلية، وأن أهلها يشكلون جزءًا من الشعب الفلسطيني، بل تركت وترك أهلها لمواجهة مصيرهم وحدهم، حتى صارت جزيرةً معزولة، فهي ليست 1967 ولا 1948 ولا شتاتا. وينذر هذا الأمر بأن الحرب على القدس ليست في صالح الفلسطينيين، بعدما تحولت إلى جزيرة معزولة غارقة في الفقر، وصارت هدفا استيطانيا سهلا جدًا، لأن مقومات صمود الفلسطيني في القدس تتلاشى يوما بعد يوم، جرّاء انهيار المجتمع وتفكّكه، وانعدام قيادة سياسية ومؤسسات وطنية تنظم المجتمع وتحصّنه. لكن الملفت أن هذا الانهيار وانعدام القيادة السياسية والمؤسسات الوطنية صار بعد اتفاقيات أوسلو وتشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية، وزاد من وتيرة انهياره بعد الانتفاضة الثانية، وبناء جدار الضم العنصري، وتسليم القيادة الفلسطينية التي أعقبت استشهاد ياسر عرفات بواقع الفصل، حتى إن رأس المال الرمزي الذي شكلته المدينة المقدسة تبخّر، واقتصر على الحرم الشريف، وكأنه لا قيمة لما يحيط الحرم والبلدة القديمة رمزيا ووجدانيا وسياسيا. وكان لافتا أيضا عدم إصرار السلطة الفلسطينية على شمول القدس وضواحيها في الانتخابات المحلية أخيرا، وكأنه رغبة بالتخلص من عبء هذه المدينة المفقرة.
من الضروري استعادة رمزية القدس مدينة وعاصمة، وليس حرماً شريفاً فقط، وأن تعود لتكون المحور الأساسي لأي عملية سياسية مع (إسرائيل)، لأن التركيز على تجميد الاستيطان في الضفة الغربية كأنه أسقط مركزية القدس في الصراع، وسلّم بالأمر الواقع.
لن تقدّم المؤتمرات التي تعقد باسم القدس والأقصى، ولن تؤخر، لأن المطلوب فوراً انتشال القدس من مستنقع الفقر والتهويد، وهذا أولا وقبل كل شيء يتطلب رغبةً وإرادة سياسية فلسطينية، ومن ثم ستتوفر برامج الصمود والتنمية وغيرها. طالما لم تتوفر هذه الإرادة، فإن كل حديثٍ عن عدم التنازل عن القدس كلام بلا رصيد. ليس الوقت في صالحنا في القدس، إلا أنه على الرغم من كل الصعاب والتحدّيات، لا يزال 400 ألف فلسطيني يعيشون في المدينة المقدّسة، وأفشلوا المعادلة الإسرائيلية التي أرادت أن تكون المعادلة على النحو التالي: 70% من السكان يهود و30% عرب. حان الوقت لكسر الحصار عن القدس، وكشف أكاذيب نتنياهو، لأن القدس في "العصر الصهيوني" وصلت إلى الحضيض اقتصاديا وسياسيا، وصارت أفقر مدن فلسطين، ولا تتوفر فيها حرية العبادة للجميع. خمسون عاما على احتلال المدينة مناسبة لإعادتها إلى صدارة الصراع.