فلسطين أون لاين

خاص بنار فراق أبيه.. "يُسرى" تُشعل شمعة ميلاد طفلها جمال الزبدة

...
غزة- نبيل سنونو:

صال تفكير يسرى العكلوك وجال عندما حطَّت على يدها قبلة حانية من حبيبها أسامة، قابلتها بقبلةٍ على كتفه: "هل هذه هي النهاية؟"، "هل أسامة لن يعود إليـنـ.."، قطعت الهواجس سريعًا قبل أن تكمل جملتها على باب المصعد: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، وهما يهمَّان بالمغادرة كلٌّ إلى جهةٍ.

الثانية و30 دقيقة بعد منتصف الليل، هرولت نبضات قلبها نحو سماعة الهاتف، المتصل هو أسامة، يا للسعادة! ها قد جاءها الصوت الذي انتظرته "طويلًا"، قفزت كلماته إليها: "أموري تمام الحمد لله (...) ديري بالك على حالك والأولاد".

التقط طفله الأصغر "سُمعة" السماعة من شقيقيه مريم وجمال: "بابا.. بابا.. بابا"، أمسكت يسرى بيدٍ مرتعشة الهاتف، إنها الكلمة التي تُشعر أسامة "بالضعف"، رد عليه: "حبيبي يابا.. الله معك يابا"، قبل أن ينتهي الاتصال إلى الأبد.

في رمضان 2009 ورمضان 2021 وقع الحدثان المفصليان في حياة يسرى وأسامة.

أسامة ذو اللحية السوداء والوجه القمحي المدور الذي تشع منه ابتسامة عريضة، جمعه القدر بيسرى ابنة عمته التي لم يرَها يومًا قبل أن يلتقي بها خطيبةً له.

والده البروفيسور في الهندسة جمال الزبدة، استهل فصول الفرح بالإفصاح عن رغبته بتزويج ابنه البكر أسامة الذي كان حينها يبلغ 21 عامًا، وهو بطبعه حيي لدرجة لا يعرف عندها شكل ابنة عمته. "ما كان بيعرفني، بدون مبالغة"، تقول يسرى.

أما هي فكانت تصغي إلى ما يقوله أخوها إسماعيل، الذي تجمعه صداقة قوية بأسامة، عن هذا الشاب المُتيَّم بحب وطنه، والمولع في الفيزياء والرياضيات.

ولأن شخصية إسماعيل الذي استشهد في 30 رمضان عام 2014، تشبه شخصية أسامة، كانت يسرى مندفعة إلى الموافقة.

"علاقتنا أنا وإسماعيل كانت روسية (ندية)، وكنت معجبة بشخصية أخويا، ومقتنعة إني لازم آخد حد زي إسماعيل".

جلسا وتبادلا أطراف الحديث الذي توج بالقبول والخطبة في 24 أغسطس/آب 2009 (الثالث من رمضان)، من منتصف الليل حتى مطلع الفجر، وهو يروي لها حكايا أصدقائه الشهداء.

حينها لم يكُن أنهى سوى ثلاثة مستويات في بكالوريوس الهندسة، لذا تعيَّن عليه الانتظار حتى يُتم دراسته، فاستمرت الخطبة عامًا و10 أشهر.

تجهزت يسرى قبل 10 أعوام لـ"فرحة العمر" التي كانت مضاعفة، إذ جمع فارسها بين زفافها وذكرى ميلادها في 24 فبراير/شباط 2011.

ارتدت يسرى الأبيض، وحلَّقت في سماء السعادة مع زوجها الذي ارتضاه قلبها.

رأت فيه إنسانًا حازمًا، لكنها تيقنت بعد الزواج أن في قلبه ينبوع حنان، فهو الذي يبكي إذا سمع صوت ابنه عبر الهاتف، أو إذا صور له مقطع فيديو.

"خلصوا اللي زيه"

كان وزن أسامة يتجاوز 100 كجم قبل زواجه، وفي أول الخطبة رافقته يسرى إلى طبيب لاتباع نظام ريجيم، ويوم زواجه بلغ وزنه 75 كجم فقط، تفاجأت صديقات العروس عندما رأينه بهذه الإرادة.

احتفى أسامة دومًا باجتماع ذكرى زواجه بيوم ميلاد يسرى، رغم أنه كان "يخجل" منها، وكلما دققت فيه بعينيها شاح بنظره. "مش قادر يطلَّع بعيوني (...) أسامة ما كان يستغرق النظر في أولاده لأكثر من 30 ثانية، هل لأنه عارف إنه هيفارقهم؟".

لكنه حرص على إهدائها ما يلائم هذه المناسبة، وعبَّر لها عن حبه بهدية "دبلة ذهب".

حياء أسامة كان سمة ملازمة له طيلة حياته، حتى إن زوجة أخيه قالت ليسرى يومًا: "أسامة خلصوا اللي زيه"، إنه لا يرفع نظره إلى وجهها، ولو رآها في الشارع لما تعرف إليها.

شق أسامة الذي رأى نور الحياة في الولايات المتحدة الأمريكية في 23 يناير/كانون الأول 1988، طريقه العلمي وصولًا إلى الثانوية العامة التي كان يطمح أن تكون جسرًا له إلى كلية الهندسة، لكن حصوله على معدل 89.7% كان صدمة ستدخله في موجة اكتئاب، كما انتاب والده الضيق.

"أسامة من الناس اللي ما بتحب تدرس لكنه ذكي، ويقال عنه: إنه فلتة فيزيا ورياضيات"، تقول يسرى.

قطع البروفيسور جمال طريق أسامة إلى اليأس، ومد إليه حبال الأمل، مقترحًا عليه الالتحاق بكلية العلوم والتحويل منها إلى قسم الهندسة الصناعية.

هذا الشاب الحاصل على الجنسية الأمريكية، طموح بلا نهاية، أراد أن ينطلق من قطاع غزة لإكمال دراسته في مجال الهندسة في الخارج، لكن الحصار أعاق دائمًا سفره، على الرغم من حصوله على منح دراسية في دول كقطر وتركيا وماليزيا للماجستير والدكتوراة.

كاد أسامة أن يكتئب مجددًا، لكن أباه استمر في تشجيعه ورفع معنوياته قائلًا له: "مش هتوقف..."، وكانت هذه الجملة بداية مشوار الشاب لدراسة بكالوريوس ثانٍ في الهندسة الميكانيكية، لم يتبقَّ له للحصول على شهادتها سوى 45 ساعة دراسية.

استغرق أسامة وأبحر في بحثه العلمي، ورافقه اللاب توب لساعات طويلة، ويومًا أبلغ البروفيسور جمال يسرى بإبداع أسامة: "زوجك خلص بحث كان قادر ياخد عليه شهادة الدكتوراة".

تسارع نبض قلب أسامة بطموحه إلى ترك بصمة في النضال لتحرير وطنه فلسطين.

يسرى لا تعرف مضمون البحث الذي حظي بهذه الشهادة الكبيرة من عالم بالهندسة، لكنها تقول: "متأكدة لو أسامة فُتحت له الآفاق والمدن والحدود كان لا يقل شيئًا عن علم خالو (حماها)".

"صلاح الدين هذا الزمن"

تعانقت روحا أسامة ووالده وعقلهما، يجلسان معًا للبحث في الهندسة، فهو "الذراع اليمنى" لأبيه.

"كانا يبحثان ويغيبان ثلاث ساعات، يرجع أسامة يقول لأبيه: لقيتها (حل لمسألة هندسية)، فيجيبه: الله يرضى عنك، وهكذا كانت حياتنا مؤخرًا"، والكلام ليسرى.

بدأ البروفيسور جمال مسيرته العلمية منذ عقود، وقضى ثمانية أعوام في أمريكا، وخمسة أعوام في الإمارات، لكنه آثر العودة إلى غزة لخدمة وطنه، ولطالما قال أسامة ليسرى: "أبويا ما حد بيعرف عنه اشي، بعد استشهاده رح تعرفوا إنه كان صلاح الدين هذا الزمن".

تعلق أسامة بوالده بشدة، فاندفع إلى ترك شقة يملكها والانتقال إلى أخرى بالإيجار ليكون إلى جانب أبيه، وقال ليسرى: "بدي أبويا يضل قدام عينيا".

يومًا أرادت يسرى أن تداعب حبها في قلب أسامة، فدار بينهما حوار خالد في فؤادها:

- مين أكتر حد لو صار له اشي هتزعل عليه؟

- أبويا وإن شاء الله يكون يومي قبل يومه.

- ليش مش أنا؟

- أنت قصة تانية.. ما بتخيل أعيش يوم من الأيام من غير أبويا.

احتلت والدته أيضًا قلبه، واستمر في احتضانها كلما رآها، وهي تسند رأسها على كتفه، وكلما دخل إلى البيت لمعت عيناها ووقفت لمصافحته.

في 13 مايو/ أيار 2021 بدأ شهر رمضان، الذي اختلف هذه المرة على يسرى وأسامة.

اعتاد أسامة أن يعتكف في العشر الأواخر في المسجد، لكنه لأول مرة أخبر يسرى أنه يريد الاعتكاف معها في البيت.

قال لها في 19 رمضان: "أعطيني رد، من هنا لبكرة هل عندك قدرة تعتكفي العشر الأواخر بدون ما تغفو عينك؟ مش تقوليلي نعست بدي أنام".

ويسرى تعلم أن التزامات البيت تؤثر في مدى قدرتها على السهر، لذا أجابته: "أكون صريحة معك؟ ما بضمن".

صمت أسامة، وقال لها بعد الإفطار: "قررت أنا وانت نعتكف العشر الأواخر في البيت، مش هسمحلك تنامي"، هكذا رأته مصرًّا.

اعتكفا حتى 29 رمضان معًا، كان كل منهما يصلي منفردًا، ويجتمعان في صلاة الوتر ويدعوان الله بما يريدان، ويتسحران، قبل أن يصليا الفجر.

في الليلة الأخيرة رفع أسامة كفيه داعيًا، وهي المرة الوحيدة التي غابت فيها يسرى عنه، ولا تعرف بما دعا ربه، لكنها دائمًا تنصت إليه وهو يقول: "يا رب مظلومون، فقراء، مشتاقون لك"، وتمتنع هي عن قول: "آمين"، خوفًا من فراقه.

وحدَّثها دائمًا: "أنا وين والشهداء وين، مين أنا عشان ربنا يصطفيني".

كأنما كان كل شيء يتهيأ لحدث ما.

رافق أسامة كل ليلة طفله جمال (6 أعوام) إلى سريره، حتى يتأكد من أنه راح في النوم، ليضفي عليه حنانه وحبه.

أما يسرى تركز دعاؤها على أخيها إسماعيل، وقالت لأسامة: "حاسة حالي مش مطولة، وهشوف أخي إسماعيل قريبًا، كلما دعوت: يا رب اجمعني به، ثمة شيء يتحرك في قلبي، أريد أن أوصيك..."، قطع أسامة كلامها، قائًلا: "بدي أوصيكِ على الأولاد: جمال يكون اله بصمة في النضال، وإسماعيل في العلم"، قبل أن يكمل مازحًا: "مريم درسيها تعليم أساسي، مهي أخريتها رح تتزوج".

في أواخر رمضان اصطحب أسامة طفله جمال معه إلى العمل، وتحمس الأخير ليكون مستقبلًا مهندسًا صناعيًّا كأبيه، كما كان "أمينًا لسره"، لا يكشف ما سمع أو رأى في مشوارهما، حتى لأمه.

وللمرة الأولى رافق أسامة أطفاله لشراء ملابس العيد، وتفقد مقاساتهم، قطعة قطعة، وشاركهم الرأي في أفضلها.

من سيطفئ لوعة قلبها؟

التقطت يسرى أنفاسها كما يفعل أسامة بعد كل مباراة كرة قدم، حيث كان مولعًا بهذه اللعبة، ويقول عنه أصدقاؤه: "أسامة بيلعب كأنه في برشلونة"، لكن هذه المحبوبة التي شغف بها حبًّا أصابته برباط صليبي في القدم، ليتضاعف ألمه، إلى جانب الصداع النصفي الملازم له.

لم تنجح العملية الطبية التي خضع لها أسامة للعلاج من الرباط الصليبي، وأثر ذلك في قدرته على العمل، دون أن يمس إرادته.

قاوم الرجل أوجاعه، وبعد كل 12 ساعة عمل يدخل بيته وهو يحملها في ملامحه، فتسأله يسرى بعدما يلعب مع أطفاله: "ايش مالك؟"، ويجيبها: "رجلي قاعدة بتضيع وراسي (يؤلمني)"، وتطمئنه بأنه سيلقى جزاءً بقدر تحمله.

اصطدم أسامة مجددًا بجدار الحصار الطويل على قطاع غزة، وحال دون سفره للعلاج في الخارج.

حان وقت شوكولاتة العيد! لكن أسامة طلب من يسرى ألا تشتريها، قائلًا لها: "مش هنلحق، هيصير حرب"، فمازحته: "حتى ولو، بنتسلى فيها".

استغلت يسرى مشوارها للخياط، وابتاعت بعض الشوكولاتة، ولما وصلت المنزل كان الاحتلال الإسرائيلي شن غارات بطائراته الحربية على قطاع غزة، في 10 مايو/أيار.

عندما انهمرت صواريخ الاحتلال على رؤوس المدنيين، قال أسامة ليسرى: "هنضل في البيت ايش ما صار".

استشعرت يسرى أن خطرًا ما قد يلحق بهم وبمنزلهم مع استهداف المحتل المباني السكنية، وبعد نقاشات اتفقا على مغادرة البيت، وتفرَّقا كلٌّ إلى مكان.

في المكالمة الأخيرة، لم تتمالك يسرى نفسها، وذرفت أنهارًا من الدموع.

توارد إلى يسرى نبأ استشهاد حماها البروفيسور جمال، لكن بقي الأمل يحدوها بأن أسامة لا يزال حيًّا، حتى اخترق خبر ارتقائه قلبها كسهمٍ ثاقب.

"يا رب.. لسة في أشياء كتيرة بدنا نعملها سوا"، كان هذا أول ما نطقته يسرى المكلوم قلبها، وهي الراضية بقضاء الله وقدره.

"لم يكن بمقدور أسامة أن يسمع نبأ استشهاد والده، فاصطفاهما اللهُ معًا"، تعبر يسرى عن يقينها.

تكشَّف ليسرى العديد من المواقف التي كأنما رتبت لاستشهاد مهجة قلبها، الآن فهمت لماذا قال أسامة في آخر عزومة عند أهلها: "ما تروحوا على السوق، مش هتلحقوا"، ولماذا قال لها: "أنا عندي أواعي"، وأصرت عليه شراء ملابس للعيد التي لم يرتدِها، ولماذا أخبرها قلبها بأن شيئًا ما سيحدث في نفس اليوم الذي تحل فيه ذكرى استشهاد أخيها إسماعيل (30 رمضان).

تغمض يسرى عينيها عن أي شيء تراه يخص أسامة، لئلا ينهشها الحزن، وهي تعيش ما يشبه حلمًا تخشى تفاصيله، فضلًا عن صدمة استشهاد خالها (حماها).

جمال ومريم التي تدرس في الصف الرابع الابتدائي وإسماعيل الذي بلغ عامًا وثلاثة أشهر، فقدوا أباهم، لكنهم، مع صغر سنهم، يتعهدون بكلمات حماسية، بمواصلة دربه.

يقول الطفلان إنهما سيلتحقان بالهندسة الصناعية كأبيهما، وربما سيكون إسماعيل مثلهم.

تذكر يسرى أن البروفيسور جمال قال لها يومًا: "إن لم يكُن أبناؤك مهندسين، يشفع لهم أن يكونوا أطباء جراحين".

لكن يسرى ستشعل شمعة ميلاد طفلها جمال السادسة في 12 من الشهر الجاري، بنار فراق أسامة، الذي تمنت لو أكمل معها مشوار الحياة، ولا تعلم من سيطفئ لوعة قلبها وقلب أطفالها.