"في حضرة الغياب الموت لا يوجع الموتى، إنما يوجع الأحياء (..) هذا هو العرس الذي لا ينتهي، في ساحة لا تنتهي، وفي ليلة لا تنتهي.. هذا هو العرس الفلسطينيّ، لا يصل الحبيب إلى الحبيب إلّا شهيدًا أو شريدًا" (محمود درويش).
كأنَّ تلك الرصاصات التي قتلت ابني إياد الحلاق اخترقتْ قلبي قبل أن تصل إليه، مرت عشرة أشهر على رحيله، كأنَّ الحياة تجمدت لديَّ وتوقفت عقاربها عند لحظة قتله، فلا أرى إلا اللون الأسود، افتقدتُ شيئًا كبيرًا بغيابه، ولَكَم أحنُّ لمعانقته.
منذ تلك اللحظة أنام على سريره ووسادته التي غرقت من دموعي، أسترجع ذكرياتي معه وكأني في حلم، أتمنى أن أفيق منه وأستيقظ لأفتح ذراعي لإياد وهو عائدٌ من المؤسسة التعليمية، أبكي تحت أنقاض الذكريات في غرفته، فعندما تنطفئ أنوارها ويخيم الظلام على كل ركن فيها تنهمر الدموع على خدودي، وتمزق أوصالي تلك الجراح التي غُرست في قلبي.
قتل أفراد من الشرطة الإسرائيلية ابني إياد المصاب باضطراب "التوحد"، فلم يمنع ذلك هؤلاء الجنودَ من إطلاق ست وعشرين رصاصة اخترق بعضها جسده، على الرغم من معرفتهم بوضعه الصحي وهم يرونه يمر عنهم داخل البلدة القديمة بالقدس منذ ست سنوات، يذهب إلى مؤسسة "الوين" لرعاية الأشخاص ذوي الإعاقة للتعلم "مساعدَ طباخ".
بصفتي أمًّا لإياد لا يزال الغائبَ الحاضرَ في قلبي ووجداني، يزورني مع همسات المساء، وإشراقات الصباح، لم تمحُه الأيام، ولم تطوِه الذكريات، وكأنَّ طيفه يدور مع تلك العقارب التي لا تتوقف، تمامًا كما لا أتوقف عن التفكير به.
كل صباح وقبل أن تتسلَّم الشمس مناوبتها أنتظره على عتبات البيت، على أمل أن يعود، ويطل بابتسامته التي لا تفارق وجهه كسكون الملائكة وهدوء المسنين، كانت عيونه ممتلئة بالحب وحلم بسيط بأن يدمج في سوق العمل مساعدَ طباخ، ويتزوج فتاة يحبها، ويعيش مستقلًّا في منزل يُظِلُّ تحت سقفه أحلامَه البسيطة، فهو المسالم الذي لا يحب الاقتراب من أحد، لكنهم اقتربوا منه بجريمة مكتملة الأركان بحق شاب من ذوي الإعاقة.
كيف أنسى كلماته عندما تحررها شفتاه ويضمني بذراعيه: "أنتِ يا ماما، كل شيء بحياتي"؟
في الـ30 من مايو/ أيار 2020، فتح أيار صفحة ذلك اليوم هادئًا، وما إن وصلت عقارب الساعة في دورانها إلى السادسة صباحًا خرج إياد إلى مؤسسته التعليمية، تتزاحم كل خصال الفرح على وجهه، فبعد يومين سينتهي تدريبه، وسيبدأ العمل، وسيكون هذا النجاح ثمرة تعب على مدار 31 عاما في تربيته والسهر على رعايته وإخراجه من وحدته قدر الإمكان. لقد عانيت في ذلك كثيرًا، وتقاعدت عن ممارسة وظيفتي "معلمة" لأجل تعليمه وحده، وكذلك تخصصت شقيقتاه في التعليم لأجله.
ونحن ننتظر الفصول الأخيرة في حكاية نجاح إياد، ونتجهز للاحتفاء به في سوق العمل كأول شاب من ذوي التوحد يصل لذلك، خرج سريعَ الخطوات، يتجنب الاقتراب من أحد، متجهًا إلى مؤسسته كعادته، فما إن مر بجانب أفراد الشرطة الإسرائيلية عند باب الأسباط بالبلدة القديمة بالقدس أوقفوه، على الرغم من معرفتهم به جيدًا، فهو يمر عليهم كل يوم منذ سنوات -حتى أنني بعد استشهاده وتسلُّم جثمانه رأيت آثار كدمات وضرب بعنف على وجهه– فهرب منهم بعدما رأى معلمته تمشي تجاه المؤسسة، وقبل أن يصلها أطلقوا عليه ثلاث رصاصات أصابت قدميه –حسب ما أظهرت بعض الكاميرات وروايات شهود عيان والمعلمة لي– احتمى خلف ظهرها يصرخ مرتجفًا: "أنا معها.. أنا معها.. أنا معها".
تجاهل عناصر الشرطة الإسرائيلية ما قالته لهم المعلمة: "هدا معي بالمركز، من ذوي الإعاقة، ما معه شيء"، ثم حاولت الابتعاد به إلى داخل مكتبٍ لإدارة النفايات.. طرق بيدَيْها المرتجفتَيْن البابَ المغلقَ طرقات عدة، والدماء تنزف من قدمي إياد المرتعب.
لكن عناصر الشرطة وصلتهما كوحش مفترس يحاصر فريسته، فأبعدوا المعلمة عنه، وداست أصابعهم على أزندة بنادقهم، لتنطلق رصاصات كثيفة إلى جسد ابني الضعيف كضباع انهالت على فريسة، ونهشت روحه إلى أن سكتت أنفاسه بعد 26 رصاصة ابتلعت صدى صوتها جدران المكان، وعرجت روحه إلى السماء.
شاب نحيل الجسد لا يدرك ما يجري حوله، ولا يعرف شيئًا عن السياسة، تُغتال روحه بجريمة بشعة لو حدثت في دولة أخرى لاهتزَّ الضمير العالمي. نزفت دماؤه على أرضية البلدة القديمة، وغادرت جسده الذي هو أحق من الأرض بها.
وقف الخوف على عتبات بيتي يستعد للدخول، فقط أنتظر تلك المكالمة الهاتفية التي وصلتني من مديرة المؤسسة، وكان صوتها مرتجفًا على غير العادة، قبل أن أرد على المكالمة توقعت أن تدعوني لحضور حفل تخرُّج إياد، لأعيش فرحة لطالما انتظرتُها، وأرى ثمرة جهدي وتعبي قد نضجت، لكنَّ في فمها شيئًا آخر، ترددت وهي تخرج الكلمات متقطعة، ثم قالتها دفعة واحدة: "إياد تصاوب".
- "تصاوب؟".. كيف؟ ولماذا؟ ومن أصابه؟ لم تُجِبْ عن تلك الأسئلة، فحملتُ نفسي وذهبت مسرعةً للمكان الذي يبعد عن بيتي مسيرَ دقائق عدة.
وصلت أفتش عن إياد –المصاب– كما أُخبرت، فكان أمر إصابته لي خطرًا، فهو لا يقوى على تحمل وخزة إبرة وليس ألم رصاصة.
هناك لم أرَ سوى بقايا دمائه، وأفراد الشرطة الإسرائيلية الذين يتجمعون في المكان، وكأنَّ شيئًا لم يحدث، أو أنهم في رحلة صيد انتهت ببساطة، دون أن يدركوا أنهم قتلوا كل من أحب "إياد" وقتلوني كذلك.. أتخيل المشهد الذي عاشه، حتى سرق الدمع من أحداقي وانساب بخفة لم أشعر إلا بحرقتها وهي تسقط على تلك العتبات، ثم انفجرت حنجرتي الغاضبة في وجه الجندي أفرد ذراعي: "اقتلني، اقتلني، ليش طخيت ابني؟ شو عملك وانت بتعرف انه من ذوي الإعاقة؟".
كطائر مكسور الجناحين لم تعد له رغبة بالطيران في سماء الفرح رجعتُ للمنزل، فقد سقطت أخيرًا في وادٍ من الحزن، لأجد جنودًا وشرطةً إسرائيلية يملؤون المنزل، ويضربون ابنتي، ثم ضُربْتُ وضُرب والده، ونحن في هذه الحالة، ليكملوا الحلقة الأخيرة من فصل جريمتهم، بالاعتداء على نساء، وألقوا علينا وابلًا من الكلام البذيء ثم انسحبوا. فنظرت من النافذة فإذ بنسوة وبعض من الجيران يتجمعون خارج البيت وداخله.. تجتاحني التساؤلات: "ماذا يجري يا ترى؟ هل إياد غير مصاب؟".
لا أحد يجيبني، فالكل يعرف شدة تعلقي بإياد، لا أحد يريد ذلك خوفًا على صحتي، في وقت كانت نيران القلق تستعر بداخلي.. جلست على كرسي أتوسد يدي ألهج بالدعاء له، ولا أجد ما يوقف دموعي، رمقت أخي وهو يذهب ويجيء أمامي عدة مرات، وكلما سألته عن إياد كان يطمئنني: "لا فقط مصاب"، ثم تغيرت روايته بعد نصف ساعة: "إصابته ربما تكون حرجة". وجاء بعد مرور ساعتين ليصارحني بعد أن عبَّد لي الطريق للحقيقة التي كنت أعرفها من عينيه، فقط احتجت ما يؤكد أو ينفي: "الله يرحمه.. إياد استشهد".
استشهد؟ يعني قُتل، أبهذه السهولة؟ هل دماؤنا لهذه الدرجة رخيصة كي تزهق بمزاج الجنود؟ شعرت كأن روحي تعرج إلى السماء مع تنهيداتي.
يا الله.. ما هذه العنصرية؟ ما هذا الإجرام؟ ماذا فعل إياد غير أنه كانت لديه أحلامٌ بسيطة؟ خمسة أيام فصلت قتل الشرطة الإسرائيلية ابني إياد عن قتل أحد عناصر الشرطة الأمريكية مواطنَهم الأسودَ، ففي وقت انشغل العالم بقضية قتل جورج فلويد في الولايات المتحدة، كقضية عنصرية خرج الناس من أجلها في شوارع عواصم عدة، ثم حوكمت الشرطة وأخذت عائلته حقها.
بقيت قضية إياد في أدراج الإهمال لدى القضاء الإسرائيلي على الرغم من أنها أفظع بكثير من قضية فلويد، واليوم اقترب الشهر العاشر من طي صفحته من روزنامة الأيام منذ رحيل ابني، ولم يُحرَّك الملف، بل برَّأ القضاء الإسرائيلي الضابطَ المسؤولَ، وحتمًا سيبرِّئون الجنود، أو يدَّعون أنهم يعانون الجنون، كمسوغ وغطاء يوفره القضاء لعملية قتل ميدانية يرتكبها جنود وشرطة (إسرائيل) لمجرد الشك أو الاشتباه.
ذنب ابني إياد فقط أنه فلسطيني، أنه كان يحلم بالحياة، يريد رؤية الجانب الجميل منها، وأن يخرج من بوتقة العزلة إلى العالم.
الآن فقدت الأمل بذلك القضاء، وفوضت أمري إلى قاضي السماء.
إياد.. أخبر الله بكل شيء، أخبره كم كنت تحلم وتحلم، ستبكي روحك الطاهرة بين يديه، قص بين يدي جلالته فصول هذه الجريمة، ولا شك هو أعلم بها منك.
كظمت صرخة دوى صداها في أعماقي، تجرعتها بمرارة على الرغم من أنني وددت فك أسرها وإطلاق العنان لحنجرتي وعيني لتفجير تلك الشحنة من الضنك والألم المحبوسين مع أنفاسي، لا أصدق أنه رحل، ما زلت أرفض طي ملابسه التي أرتديها لأشتم رائحته العالقة بها، وكأنَّها تشبه رائحة "كافور" الجنان.
أتدرون؟ كلما خرجت مع شقيقتيه واشتريت لهن شيئًا، ما زلت أخطئ وأشتري لإياد، فقاسية هي اللحظة عندما تفقد ابنك الوحيد، فكيف إن كان من ذوي الإعاقة؟
منذ عشرة أشهر لا أفارق سريره، أكثر شيء أفكر فيه هو خوفه، وبِمَ شعر لحظة أوقفته الشرطة الإسرائيلية وأمسكه الجنود، أفكر بوجعه حينما أُفرغت الرصاصات بجسده، ليتهم قتلوني قبل أن تصله الرصاصات، قلت تلك الجملة للضابط الإسرائيلي.
قبل قتله كنا على وشك أن نزف زغاريد الفرح بعد شهرين من انخراط إياد في سوق العمل وزواجه، فقد أخبرني أنه يحب فتاةً ويريد أن يتزوجها، وكان يخشى ألّا أزوجه، فدائمًا يعبر عن ذلك والقلق يملأ فاه متسائلاً: "ما بدك تزوجيني؟ خلص راحت عليه؟"، كنت أرفض أن يقول ذلك.. مين حكى يا حبيبي؟ والله لأزوجك يا حبيبي، انت ما بنقصك شيء، فدائما أحاول غرس بذور الثقة داخله، وأعطيه أموالًا كي يشعر بالاستقلالية، فيشتري لأصدقائه بالمؤسسة من كل ما لذ وطاب.
إياد، اشتقت إليك يا بني، اشتقت إلى قطع الحلوى التي كنا نتقاسمها، إلى نظرتك وهي تغازل عينيَّ، اشتقت لاحتضانك، لتلك الأمسيات بيننا، فقد كنتَ قمرَها المنير، لعيد ميلادك في السابع والعشرين من كانون الثاني، ونحن نوقد شموع الفرح بك، حتى أنني كنت أرفضُ الاحتفال بيوم ميلاد والدك وأختك في الشهر نفسه إلا في يوم ميلادك؛ لرفع قدرك وشأنك بيننا، ولنخبرك كم نحن نحبك.. أفتقدك كثيرًا يا صغيري المدلل، فلم أعد أرى انعكاسي فيك، وسأكتفي بحفظ صورك في ذهني.
اشتقت إليك في يوم الأم العالمي وأنت تخبئ وردة أو هدية خلف ظهرك لتفاجئني بها، كانت تلك الهدية على بساطتها أغلى شيء عندي، اشتقت لتلك القبلة التي تطبعها على جبيني فتزرع في قلبي حبًّا لا حدود له.
منذ أن رحلت انتهت حياتي، وأغلقت الدنيا ستار الفرح أمامي.
رحل إياد، وها هي والدته "رنا الحلاق" التي قصت لي التفاصيل السابقة غارقة في حزنها، لتؤكد أنه حينما يقتل الاحتلالُ الإنسانَ فإنه أيضًا يقتل محبيه، ويقتل رسالة الرحمة والإنسانية. كنت أستمع لتنهيدات الألم والحسرة وكومة مشاعر حزينة تملأ قلب والدته المهشم من الداخل، وكأن زلزالا ضربه وهدم أعمدة التماسك فيه، فطوال حديثنا لم تتوقف الدموع.
إياد الذي امتلك ثلاثة أحلام بسيطة؛ أن يتزوج الفتاة التي يحب، ويصبح "شيفًا" لينخرط في سوق العمل، ويشتري بيتًا، سقطت أحلامه على حاجز" الموت"، هناك لا تعرف إلا لغة الموت والقتل، الجنود دائمًا مستعدون لإطلاق النار على الفلسطيني لمجرد مروره بجانب نقطة عسكرية أو قرب جنود منتشرين على مفترقات الطرق في الضفة الغربية، ما فعلوه مع إياد سبق أن فعلوه مع عشرات الشهداء الذين قتلوا بدم بارد.
ففي عام 2020 أعدم الجنود الإسرائيليون 32 فلسطينيًّا ميدانيًّا، وفي ساحات المواجهات الشعبية مع الاحتلال بالضفة الغربية المحتلة، منهم امرأتان، وشهيدان من ذوي الإعاقة، وعشرة أطفال، وقبلهم قُتل المئات بالطريقة ذاتها.
كانت شكوك جنود الاحتلال كفيلة بإعدام الشاب المقدسي المصاب بالتوحُّد إياد الحلاق، لتنتهي الجريمة بتبرئة قسم تحقيقات الاحتلال بالقدس للضابط المسؤول عن قتل إياد، ليستمر مسلسل القتل بدم بارد، فعلى قارعة الطرق تزهق أرواح طلبة وكبار سن وأطفال ونساء.
لكن أمه تحاول التعلق بقشة أمل تُحدث نوعًا من التفاؤل لديها، بعد إعلان المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق بجرائم حرب بالضفة الغربية والقدس وقطاع غزة. رحبت والدة إياد بالقرار، ووصفته بأنه انتصار لكل الفلسطينيين وللإنسانية، وتتمنى أن تُكشَف حقائق وجرائم (إسرائيل) التي لم تحترم القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وكل الأعراف والمواثيق الدولية التي نصت على حماية المدنيين والأشخاص ذوي الإعاقة، و"ألّا يُعرَّض أي شخص من ذوي الإعاقة للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو غير الإنسانية أو المهينة، وأن تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير التشريعية والإدارية والقضائية وغيرها لمنع تعذيبهم" وهو ما انتهكته (إسرائيل) فعلًا. ومما يزيد تفاؤل والدته ما أكدته مدعية المحكمة "استخدام (إسرائيل) القوة الفتاكة ضد الفلسطينيين".
بعض القصص لم تنته بعد فهناك جزء متبق خلف "عذابات الموت".
وما زالت حقوق الإنسان تُنتَهَك في فلسطين.. بأي ذنب قتل إياد؟!